كتابة: جيسيكا أورويج.
ترجمة: عبدالحميد حسين شكري.
مراجعة: أحمد سعيد.
ظهرت طريقة تفكيرٍ مثيرةٌ للجدل ومزعجةٌ للغاية في أوساط المجتمع الفيزيائي، إنها فكرة وصولنا إلى الحد المطلق مما نستطيع فهمه عن العالم حولنا بواسطة العلم. حيث قال عالم فيزياء جسيمات في المنظمة الأوروبية للأبحاث النووية المعروف بـ’سيرن’ هاري كليف خلال حديثه الأخير في تيد الذي عقد في جنيف بسويسرا: “ستخبرنا السنين القليلة المقبلة ما إذا كنا قادرين على زيادة فهمنا للطبيعة أو أننا قد نواجه أسئلةً لا نستطيع الإجابة عليها ولأول مرةٍ في تاريخ العلم”.
إن السبب المخيف أيضاً لاقترابنا من هذا الحد هو “أن قوانين الفيزياء تمنع ذلك” كما يقول كليف، ويقع في جوهر حجة كليف ما يدعوه بالعددين الأكثر خطورة في الكون. وهما مسؤولان عن كل المادة، البنية، والحياة التي نشهدها عبر الكون. ويقول كليف أنه لو كان هذين الرقمين مختلفين قليلاً فسيكون الكون مكاناً فارغاً وبلا حياة.
الرقم الخطير الأول: قوة مجال هيغز
إن أول عددٍ خطيرٍ في قائمة كليف هو قيمةٌ تمثل القوة التي يدعوها الفيزيائيون بمجال هيغز، وهو مجال طاقةٌ غير مرئيةٍ ولا تختلف تماماً عن المجالات المغناطيسية التي تتغلغل عبر الكون. تكتسب الجسيمات كتلتها عندما تسير عبر مجال هيغز، لتصبح في النهاية بروتوناتٍ، نيوتروناتٍ وإلكتروناتٍ، مشكلةً كلّ الذرات التي تصنعك وتصنعني وتصنع كلّ شيءٍ نراه حولنا. فمن دون مجال هيغز، لما كنا هنا. فنحن نعلم يقيناً تقريباً أن مجال هيغز موجودٌ بسبب الاكتشاف الرائد الذي تم في عام 2012مـ عندما رصد فيزيائيو سيرن جسيماً أولياً جديداً يدعى بهيغز بوزون. ونظرياً، لا يمكنك الحصول على هيغز بوزون من دون مجال هيغز. إلا أن هناك أمراً غامضاً حول مجال هيغز والذي لا يزال يثير قلق الفيزيائيين مثل كليف.
يقول كليف: يجب على مجال هيغز أن يؤدي إحدى مهمتين وفقاً لنظرية إينشتاين للنسبية العامة ونظرية ميكانيكا الكم، وهما النظريتان اللتان قادتا فهمنا للكون على المقياسين الهائل والضئيل للغاية في الفيزياء. ويضيف كليف: إما أن يكون منطفئاً، ما يعني أن قوة مجال هيغز تساوي صفراً ولن يكون قادراً على إعطاء الجسيمات كتلتها، أو أن يتم تشغيله. وهذه “القيمة الفعلية” كما تقول النظرية، “هائلةٌ للغاية”. إلا أن الفزيائيين لم يتمكنوا من رصد أياً من هذه السيناريوهات.
يقول كليف: “إن مجال هيغز في حالة التشغيل بشكلٍ طفيفٍ في الحقيقة”. فهو لا يساوي الصفر، ولكنه أقل بعشرة آلاف تريليون مرة مما قد يكون عليه في حالة التشغيل الكامل، فهو أشبه بمفتاح المصباح الذي علق قبل وضع الإقفال. إن هذه القيمة حرجةٌ، فإذا ما كانت مختلفةُ ولو قليلاُ فلن يكون هناك أيّ بنيةٌ ماديةٌ للكون”. إن سبب ضعف قوة مجال هيغز للغاية يتحدى الفهم. ويأمل الفيزيائيون العثور على إجابةٍ لهذا السؤال عن طريق رصد مجموعةٍ جديدةٍ من الجسيمات في مسرع الجسيمات في سيرن الذي تم تحسينه حديثاً. فحتى الآن، ما زالت المطاردة قائمة.
الرقم الخطير الثاني: قوة الطاقة المظلمة
بتضاعف الرقم الخطير الثاني لكليف، أو كما يدعوه الفيزيائيون “أسوأ تنبئٍ نظريٍ في تاريخ الفيزياء”. يبحث هذا الرقم المحفوف بالمخاطر عميقاً داخل الفضاء العميق ومع ظاهرةٍ معقدةٍ ومحيرةٍ للعقل تدعى بالطاقة المظلمة. ولقد تم قياس الطاقة المظلمة لأول مرةٍ في عام 1998مـ، وهي قوة الطرد المسؤولة عن تسارع توسع الكون. إلا أن كليف يعترف “أننا لا نعلم ماهية الطاقة المظلمة”. “لكن أفضل فكرة هي أنها طاقة الفضاء الفارغ نفسه، أيّ طاقة الفراغ”.
إن كان هذا صحيحاً، فينبغي أن تكون قادراً على جمع طاقة الفضاء الفارغ لتحصل على قيمةٍ تمثل قوة الطاقة المظلمة. وعلى الرغم من أن الفيزيائيين النظريين فعلوا ذلك مسبقاً فهناك مشكلةٌ ضخمةٌ في إجابتهم: يقول كليف: “ينبغي أن تكون الطاقة المظلمة أقوى بـ10120 مرةً من القيمة التي نرصدها من علم الفلك”. ويضيف: “إن هذا الرقم ضخمٌ للغاية ما يجعل الإحاطة به ضرباً من المستحيل … إن هذا الرقم أكبر من أيّ رقمٍ في علم الفلك، فهو أكبر بألف تريليون تريليون تريليون مرةٍ من عدد الذرات في الكون. لذا فإنه تنبؤ سيءٌ جداً”.
على الجانب المشرق، فإننا محظوظين لكون الطاقة المظلمة أصغر من التنبؤ النظري. فلو كانت وفقاً لنماذجنا النظرية لتسببت قوة الطرد للطاقة المظلمة بتمزيق كوننا حرفياً. لأن القوى الأساسية التي تربط الذرات ببعضها البعض ستكون عاجزةً عن مواجهتها ولن يتشكل شيءٌ قط، ولما وجدت المجرات والنجوم والكواكب والحياة كما نعرفها. وفي الجانب المقابل، فإنه من المحبط جداً أننا لا نستطيع استخدام نظرياتنا الحالية للكون لتطوير قياسٍ أفضل للطاقة المظلمة كي تتوافق مع الملاحظات الحالية. ولو طورنا نظرياتنا للعثور على طريقة تمكننا من فهم طبيعة قوة الطاقة المظلمة ومجال هيغز على ما هما عليه، سيكون ذلك أفضل من تحسين نظرياتنا فقط.
الحصول على إجاباتٍ قد يكون مستحيلاً
أوضح كليف أن هناك طريقةً واحدةً ممكنةً للحصول على بعض الإجابات، ولكننا قد لا نتمكن أبداً من إثباتها. فلو تمكنا بطريقةٍ ما من إثبات أن كوننا هو واحدٌ من مليارات الأكوان الأخرى في كونٍ متعددٍ شاسعٍ، فيقول كليف “فقد نفهم فجأةً القيم المحكمة بشكلٍ عجيبٍ لهذين الرقمين الخطيرين، لأن الطاقة المظلمة في معظم الكون المتعدد ستكون قويةً لتمزق الكون إرباً إرباً، أو أن مجال هيغز سيكون ضعيفاً مما لا يسمح بتكوين الذرات”.
يحتاج الفيزيائيون لاكتشاف جسيماتٍ جديدةٍ تدعم بعض النظريات المتطرفة مثل نظرية الأوتار لإثبات ذلك، والتي تتنبأ بوجود الكون المتعدد. وهناك حالياً مكانٌ واحدٌ فقط يمكنه إنتاج مثل تلك الجسيمات في العالم إن كان لها وجودٌ، وهو المصادم الهيدروني الكبير في سيرن. وأمام الفيزيائيين سنتين أو ثلاثة فقط قبل أن تقوم سيرن بإغلاق المصادم الهيدروني الكبير من أجل التحسينات. حيث يقول كليف: إن لم نتمكن من العثور على أيّ شيء، فهذا قد يكون علامةً على بداية النهاية.
يقول كليف: “قد ندخل مرحلةً جديدةً من الفيزياء. حيث توجد ملامح غريبةٌ للكون ولن يكون باستطاعتنا تفسيرها. وهي مرحلة تتوفر لنا فيها تلميحاتٌ بأننا نعيش في كونٍ متعددٍ والذي يقع بشكلٍ محبطٍ بعيداً عن متناولنا. في مرحلةٍ لن نتمكن فيه أبداً من الإجابة على سؤال: لماذا يوجد شيءٌ بدلاً من لا شيء؟”.
المصدر (independent)
جيسيكا أورويج (Jessica Orwig)
هاري كليف (Harry Cliff)
المنظمة الأوروبية للأبحاث النووية (the European Organization for Nuclear Research)
سيرن (CERN)
تيد (TED)
جنيف (Geneva)
سويسرا (Switzerland)
مجال هيغز (Higgs field)
هيغز بوزون (Higgs boson)
نظرية الأوتار (string theory)
المصادم الهيدروني الكبير (the Large Hadron Collider)
نظرية إينشتاين العامة للنسبية (Einstein’s theory of general relativity)