كتابة: رمزي حكمي.
مراجعة: فارس بوخمسين.
تُعرف اضطرابات طيف التوحد بأنها مجموعةٌ من الاضطرابات النمائية التي تتميز بمشكلاتٍ مستمرةٍ في التواصل الاجتماعي، صعوبةٍ في التفاعل مع الآخرين، تكرار بعض السلوكيات، وفقد الاهتمامات والنشاطات [1].
إحصائيات:
وجدت الدراسات في آسيا وأوروبا وشمال أميركا أن التوحد منتشر حول العالم بنسبة 1-2% [2]. كما أن التوحد أكثر شيوعا في الذكور من الإناث بمعدل 4.5 مرات، واحد بين كل 42 ذكرا مقابل واحدة بين كل 189 أنثى [2]. وفي أميركا، زاد شيوع اضطراب التوحد من 1/50 (في 2010مـ) إلى 1/68 (في 2010مـ)؛ أي بنسبة 119.4% [2]. يحدث اضطراب التوحد في كل المجتمعات العرقية والإثنية [2]. أكثر من 3.5 مليون أميركي مصابون بالتوحد [3].
يُعد اضطراب التوحد من الأمراض ذات قابلية التوريث العالية؛ أي أن احتمال انتقاله بين الأجيال كبير. والمصابون بالتوحد نجاحٌ تكاثريٌ منخفضٌ؛ أيّ أنهم لا ينجحون في تكوين أسرةٍ ورعايتها غالباً [4]. فلماذا لم ينهِ الانتخاب الطبيعي هذا المرض الذي لا يبدو أنه يجعل الحياة أفضل؟ يبدو أن الإجابة على سؤال كهذا مهمةٌ صعبةٌ إذا علمنا أن الانتخاب الطبيعي يسعى دائماً لتخليصنا من الجينات الضارة التي تُقلل النجاح التكاثري وتحد من فرص البقاء. لكن هل استطاع العلماء إيجاد حلٍ لهذه المشكلة؟
دعونا الآن نطَّلع على أهم النظريات التي حاولت تفسير وجود مرضٍ خطيرٍ كهذا في حياة 1% من سكان العالم.
- نظرية عقلية الرجل المتطرفة:
الرجال يميلون أكثر من النساء إلى أن يملكوا عقلياتٍ نظاميةٍ (أو تحليليةٍ) (5,6 في المرجع رقم 4)؛ فهُم أكثر اهتماما بالتحليل بطريقةٍ منهجيةٍ، ولديهم القدرة على إنشاء القواعد التي تحكم نظاماً معيناً من المتغيرات. بينما النساء لديهن عقليات أكثر تعاطفاً؛ فهن أكثر قدرة على استنتاج الحالات العاطفية في الأشخاص الآخرين والتعامل معها [4].
تفترض هذه النظرية أن المصابين بالتوحد يميلون بشدةٍ إلى أن يكونوا منهجيين أو نظاميين أكثر من أن يكونوا متعاطفين [4]. وهذه النظرية مدعومةٌ بعدة أدلةٍ تجريبيةٍ:
أولا: كما ذُكر في الإحصائيات، الرجال أكثر عرضة للإصابة بالتوحد من النساء [2].
ثانيا: المصابون بالتوحد الذين لديهم مستويات ذكاءٍ متوسطةٍ أو عاليةٍ تفوقوا على غير المصابين (بنفس مستوى الذكاء IQ) في المهمات التنظيمية (8 في المرجع رقم 4).
ثالثا: الفروق السلوكية بين المصابين بالتوحد وغير المصابين كانت تعتمد على المستوى التشريحي للدماغ (9 في المرجع الأصلي).
رابعا: التعرض لهرمون الذكورة (تستوستيرون) قبل الولادة ارتبط بزيادة نسبة الإصابة بالتوحد (10 في المرجع الأصلي).
من منظورٍ تطوريٍ، يبدو أن الرجال الذين امتلكوا قدراتٍ نظاميةٍ أكثر وقدراتٍ تعاطُفيةٍ أقل كانوا أفضل من غيرهم من الرجال (11 في المرجع رقم 4). من المعروف أن معظم أسلاف البشر عاشوا في مجتمعات الصيد والجمع، حيث يصيد الرجال ويقومون بالمهمات التنظيمية (صناعة الأسلحة والأدوات، المطاردة، التجارة) بينما تقوم النساء بجمع الطرائد. وفي بيئةٍ كهذه، كانت لعقلية الرجال النظامية فائدةٌ، فهم يذهبون بعيداً عن منازلهم للصيد ويقضون فتراتٍ من العُزلة. وكانت لعقلية النساء التعاطفية فائدةٌ أيضاً، فقد كُنَّ بحاجةٍ إلى تربية الأطفال واستنتاج أفكار القُرَناء المُحتملين؛ للتأكد من صدق نياتهم في الاستثمار الوالدي في الذرية. إذاً، فعقلية الرجال المتطرفة (نظاميةٌ كثيراً وعاطفيةٌ قليلاً) ساعدتهم على التكيُّف في مجتمعات الأسلاف وأعطتهم ميزةً تطوريةً ونجاحاً تكاثرياً، وهذا ربما هو ما جعل جينات التوحد تستمر في الانتقال بين الأجيال [4].
- نظرية النسخ الوراثي:
من المعروف أننا نرث نسختين من كل أليل (أشكال الجين الواحد المختلفة)؛ نسخةً من الأب وأخرى من الأم. وفي معظم الحالات تؤدي هذه النسختان وظيفتيهما، لكن في حالات استثنائية تُعطَّل إحدى النسخ فلا تعمل. ويشير النسخ الوراثي إلى تعبير جينٍ واحدٍ من كروموسومات الأب أو الأم المورَّثة [4]. يرتبط النسخ الوراثي بالعديد من الاضطرابات، ومنها التوحد. افترض عالم البيولوجيا التطورية برنارد كريسبي ومُحاضِر علم الاجتماع كريستوفر بادوك أن التوحد يسبب انخفاضاً في القدرات العقلية لدى النساء وارتفاعاً في القدرات العقلية لدى الرجال (12 في المرجع رقم 4).
الأطفال المصابون بالتوحد يفرضون على الأمهات الكثير من التكاليف أكثر من غيرهم من الأطفال، فالأم تحاول أن تسيطر على نوبات غضبهم ورغبتهم في التحكم بالآخرين وفقدانهم للتعاون والتعاطف. هذه التكاليف تبدو نافعةً للأب في المقابل؛ فالأم ستقضي وقتاً أطول مع الطفل وتستثمر فيه موارِد أكثر [4]. (الاستثمار هنا يعني ما يمنحه الوالدان للطفل في سبيل تنشئته، قد يعترض البعض على هذه النقطة؛ فكيف يكون انشغال الأم وخسارة وقتها شيئاً جيداً من وجهة نظر الأب؟ علينا أن نعلم أن بيئة الأسلاف كانت تختلف كثيراً عن بيئتنا، وقوانينهم الاجتماعية كانت تختلف أيضاً. فالزوجة تستطيع الاقتران بأكثر من رجل، والرجل كذلك، ولذلك سيفضل الأب دائماً أن تستثمر الأم مواردها في طفله على أن تستثمر مواردها في طفلٍ من رجل آخر. ومن هنا تأتي المشاعر العاطفية كالغيرة، ومن هنا استطاع العلماء تفسير إقبال الذكور ورغبتهم في التزاوج وحذر الإناث وتمنُّعهم) [6]
- نظرية مؤشر اللياقة المنخفضة:
ذيل الطاووس الملون الخلاب هو أحد الأمثلة على مؤشرات اللياقة البيولوجية في الانتخاب الجنسي. فمع أنه ليس ضرورياً للبقاء إلا أنه يشير إلى اللياقة العالية التي تجذب الإناث، فهو في هذه الحالة مهمٌ للبقاء بطريقةٍ غير مباشرةٍ؛ أيّ عن طريق أهميته في التزاوج والتكاثر [4]. مؤشر اللياقة البيولوجية صفةٌ تستهلك الكثير من الطاقة لكي تنمو وتظهر وتبقى. وهذه الكلفة (استهلاك الكثير من الطاقة) تجعل الصفة مؤشرا حقيقيا إلى اللياقة، لأن استهلاك الطاقة سيضمن أن الأشخاص اللائقين بما فيه كفاية هم وحدهم من سيحصلون على هذه الصفة.
تقترح النظرية الثالثة أن التوحُّد هو الحد الأدنى لمؤشرات اللياقة في الانتخاب الوالدي. الآباء والأمهات لا يعاملون أبناءهم بالمساواة دائماً، بل حسب مؤشرات البقاء والنجاح التكاثري في كل واحدٍ منهم. يحابي الآباء الأبناء الأفضل صحةً والذين يُحتمل أن يصلوا إلى سن التكاثر وينجحوا تكاثرياً. أما الأبناء الأضعف والذين لا يُنتَظر نجاحهم التكاثري فيحصلون على رعايةٍ أقل من الوالدين. هذه الرعاية هي الاستثمار الوالِدي. والوالدان يختاران الأبناء الذين يستثمرون فيهم وقتهم وطاقتهم كما تختار أنثى الطاووس طاووسها الأطول والأجمل ذيلاً!
نشر بروفيسور الطب النفسي وعلم السلوكيات الحيوية آندريو شانر وفريقه البحثي هذه النظرية في دراسةٍ عام 2008مـ، واقترحوا أن الانتخاب الوالدي يمكن أن يجعل بعض الميزات الاجتماعية في المواليد تتطور كمؤشر إلى اللياقة، وأن التوحُّد يمثل الحد الأدنى والأقل جود في هذا المؤشر. ذكر الباحثون في هذه الدراسة أن الأبناء يتصارعون للحصول على الرعاية الأكثر باستعراض المؤشرات التي تدل على قوة لياقتهم البيولوجية [5]. وأطلقوا على هذه المؤشرات اسم “الفتنة أو الاجتذاب” فكأن الأطفال يفتنون والديهم للحصول على رعاية أكثر. فالأطفال الذين لديهم جيناتٌ “جيدةٌ” (أي طفراتٌ أقل) ورُبُّوا في بيئاتٍ مناسبةٍ سيطورون أنظمةً عصبيةً معقدةً لاستعراض سلوكات الفتنة والدلال، وهم هنا المصابون بالتوحد. أما الأطفال الذين لديهم جيناتٌ “سيئةٌ” (أي طفراتٌ أكثر) فلن يكونوا قادرين على تطوير هذه الأنظمة العصبية ومن ثم لن يكونوا قادرين على اجتذاب والديهم [5]. ومن الأدلة التي تدعم هذه النظرية أن الرُضَّع يبدأون باستعراض “الفتنة” عندما يقترب وقت فطامهم؛ كأنهم يطالبون بالمزيد من الرضاعة (22 في مرجع رقم 5). وفيما يتعلق بالتوحد، فالمُلاحَظُ أنه مرتبط بالفطام المبكر (23 في مرجع رقم 5).
- نظرية العصب الحائر المتعدد:
العصب الحائر هو العصب العاشر من اثني عشر عصبًا تنشأ من جذع الدماغ. والعصب الحائر جزءٌ أساسيٌ من أجزاء الجهاز العصبي الآلي ويعمل على تنظيم العواطف والسلوكات الاجتماعية. تقترح هذه النظرية أن الإنسان (وبقية الثدييات) طوروا منظومةً عصبيةً وظيفيةً لتنظيم العواطف والسلوكات الاجتماعية، وأن هذا التطور حدث في ثلاث مراحل [4].
أولا: تطور العصب الحائر بدون طبقة المايلين تغلفبعض الأعصاب وتعمل كعازلٍ كهربيوتسهل توصيل السيالات العصبية. ولقد كانت وظيفة هذا العصب في تلك المرحلة أن يساعد الحيوانات البدائية (كالزواحف) على الدفاع عن نفسها عن طريق التجمُّد. إذ عندما تشعر الكائنات بالخطر قد تهرب أو تقاتل أو تتجمد (تدَّعي الموت، مثلاُ). لكن هذه الخاصية (أيّ التجمد) ليست شائعةً بين الثدييات، ومنها الإنسان [4].
ثانيا: ثم تطور الجهاز السبماثي الأدرينالي (المتعاطف) المسؤول عن الفرار في الحالات الحرجة، وهذه الاستجابة نموذجية في الإنسان [4].
ثالثا: تطور العصب الحائر بطبقة من المايلين. وكانت وظيفته -إلى هذه اللحظة وأنا أكتب لأتواصل معكم اجتماعيا- أن ينظم العواطف والسلوكات الاجتماعية والتهدئة [4].
تفترض هذه النظرية أن لدى المصابين بالتوحد استجاباتٌ اجتماعيةٌ ضعيفةٌ (خللٌ في المرحلة الثالثة)، وأنهم يفضلون الدفاع عن أنفسهم إما بالتجمد أو الفرار[4]. وتحاول هذه النظرية تفسير السلوك العام للمصابين بالتوحد. فمثلا، يَعْزون حالات الثورة العاطفية والغضب التي تنتاب المرضى إلى عدم قدرة العصب الحائر ذي طبقة المايلين على تثبيط الجهاز السمباثي الأدرينالي بسبب فقدانه لنظام التواصل الاجتماعي [4]. يعني هذا أن هنالك فائدةٌ تطوريةٌ لعدم كفاءة العصب الحائر لدى المصابين بالتوحد؛ فهم غالباً يتجنبون التفاعلات الاجتماعية المليئة بالمخاطر ويركزون على أهدافهم [4].
غالباً ما يكون الجهاز العصبي عند المصابين بالتوحد في حالةٍ من اليقظة المفرِطة أو الانغلاق بسبب عجز العصب الحائر ذي طبقة المايلين عن أداء وظيفة التهدئة (عن طريق التواصل الاجتماعي). هذه عمومًا هي الاستجابات التكيفية لدى الزواحف، وهي خللٌ شديدٌ في تكيُّف الإنسان [4].
بعد قراءة النظريات في الأعلى، هل من الممكن تفسير تطوُّر مرضٍ ذي قابلية توريثٍ عاليةٍ ونجاحٍ تكاثريٍ منخفضٍ كالتوحد؟
في 2011مـ، نشرت أستاذة علم النفس التطوري والمعرفي والنمائي آنمي بولجر وأستاذة الأحياء التطورية فرايتسون غاليس دراسة بعنوان “المقاربة التطورية للتوحد: مراجعة وتوحيد”. وفي هذه الدراسة استعرضت الباحثتان ما تقدم من النظريات وحاولتا توحيدهما في نظريةٍ جديدةٍ للبحث عن التفسيرات التطورية لاضطراب التوحد. وباختصارٍ، تذكر الدراسة أن التوحد هو اضطرابٌ متعدد الجينات؛ فهناك ما يقارب 30 جيناً مرتبطاً بهذا الاضطراب، ويحتمل في الاضطرابات متعددة الجينات أن تكون بعض الجينات نافعةً للمريض. فمثلاً، من المحتمل أن تكون الجينات المسؤولة عن التوحُّد مسؤولةً في الوقت نفسه عن زيادة مستوى الذكاء (27 في المرجع رقم 4). وبما أن الذكاء مرتبطٌ بالنجاح التكاثري فإن جينات الذكاء المتعلقة بالتوحُّد يمكنها أن تنتشر بين الناس [4]. وترى الباحثتان أن معظم الناس الذين يحملون جينات التوحد سوف يكونون ذوي مستوياتٍ عاديةٍ أو عاليةٍ من الذكاء، ولن يصابوا بالتوحد. لكن في أسوأ الحالات، قد يؤدي تفاعل الجينات فيما بينها إلى الإصابة بالتوحد أو أمراضٍ أخرى بسبب وجود طفراتٍ ضارةٍ [4].
المصطلحات:
اضطراب طيف التوحد Autism spectrum disorder
القابلية للتوريث Heritability
النجاح التكاثري Reproductive success
الجينات المعتمِدة epistatic genes
نظرية عقلية الرجل المتطرفة Extreme male brain theory
هرمون التستوستيرون Testosterone
مجتمعات الصيد والجمع Hunter-gatherer societies
الاستثمار الوالدي paternal investment
نظرية النسخ الوراثي Genomic imprinting theory
أليل allele
برنارد كريسبي Bernard Crespi
كريستوفر Christopher Badcock
نظرية مؤشر اللياقة المنخفضة Low-fitness indicator theory
الانتخاب الجنسي sexual selection
الانتخاب الوالِدي paternal selection
آندريو شانر Andrew Shaner
الفتنة أو الاجتذاب Charm
نظرية العصب الحائر المتعدد Polyvagal theory
العصب الحائر vagal nerve (10th cranial nerve)
جذع الدماغ Brainstem
الجهاز العصبي الآلي autonomic nervous system
طبقة المايلين Myelin sheath
التجمُّد freezing
الجهاز السبماثي الأدرينالي Sympathetic Adrenal System
الفرار flight
التهدئة calm
المقاربة التطورية للتوحد: مراجعة وتوحيد Evolutionary approaches to autism- an overview and integration”.
متعدد الجينات polygenic
آنمي بولجر Annemie Ploeger
فرايتسون غاليس Frietson Galis
المراجع:
[1] www.nimh.nih.gov/health/publications/autism-spectrum-disorder-qf-15-5511/index.shtml
[2] www.cdc.gov/ncbddd/autism/data.html
[3] www.bloomberg.com/news/articles/2014-06-09/autism-costs-more-than-2-million-over-patient-s-life
[4] www.ncbi.nlm.nih.gov/pmc/articles/PMC3277413/pdf/mjm-1302-038.pdf
[5] www.ncbi.nlm.nih.gov/pubmed/26181749
[6] nakedback.blogspot.com/2015/10/blog-post_
- أبرز الأحداث العلمية لعام 2021 - 09/01/2022
- التطبيقات المتنوعة لتقنية الحوسبة السحابية - 14/12/2021
- تعريف الحوسبة السحابية وتأثيرها على عالم الأعمال - 30/08/2021