بقلم: لينة ناصر.
في مكتبه المتواضع، يراقب القطارات، هكذا كان يمضي ألبرت اينشتاين اليافع يومه. كان يسرع في إنجاز المهام التي وكلت إليه من قبل مكتب براءات الإختراع في مدينة برن السويسرية، لكي يجلس و يتأمل القطارات. تأملاته تلك تمخضت أفكاراً غيرت ملامح الفيزياء إلى الأبد! وصف أينشتاين مكان عمله على أنه محراب تأمله للطبيعة و الفيزياء، و إنه لم يكن ليحظى بمكان أفضل لذلك!
خبرة أينشتاين و شغفه بالفيزياء مكناه من إتمام عمله بشكل سريع وجيد ليختلي مع أفكاره تلك حول الضوء والسيطرة عليه و مسابقته كما كان يحلم. إن قدرته المميزة على فهم الفيزياء بهذه الصورة الجميلة أعطته أفضلية في حل مسائل الفيزياء العالقة في عصره.
كان الضوء هو اللغز الأكبر، لم يكن مفهوماً كيف يمكن للضوء أن يحرر إلكترونات من معدن إن كان بتردد معين، و ليس له علاقة بكثافة الضوء هذا، فالتفسير كان أن الضوء يسخن المعدن و تطرد الإلكترونات على سطحه نتيجة لذلك، و لكن هذا التفسير (الكلاسيكي) لم يكن يحل قضية تناسب التردد – و ليس الكثافة الضوئية – مع تحرر الإلكترونات.
في ورقته الأولى من سنته “العجائبية” (1905)، استفاد أينشتاين من أبحاث ماكس بلانك بخصوص تكميم الطاقة ليطبقه على نموذج الظاهرة الكهروضوئية. بيّن أينشتاين في ورقته بعنوان (“Über einen die Erzeugung und Verwandlung des Lichtes betreffenden heuristischen Gesichtspunkt”) – و التي تعني الإنتاج والتحول في الضوء من ناحية ارشادية – أن الضوء مكون من جسيمات (كمات) تدعى بالفوتونات والتي لها طاقةٌ تتناسب مع ترددها، ولكي يقوم بتحرير الالكترون من سطح المعدن، على فوتونٍ واحدٍ فقط الاصطدام به و تحريره، و على طاقته أن تساوي طاقة العتبة أو أعلى.
تلك الورقة كانت إحدى أهم أعمدة تأسيس نظرية الكم. و التي لاحقاً طرحت السؤال حول ماهية الضوء، فورقة أينشتاين هذه تبين أن الضوء مكون من جسيمات كما ذكرنا، ولكن معادلات ماكسويل الشهيرة – و التي وحدت القوى الكهرومغناطيسية في جملة من ثمان معادلات غاية في الأناقة – بيّنت أن الضوء عبارة عن موجة كهرومغناطيسية.
بالطبع كانت معادلات ماكسويل إنجازاً تاريخياً في الفيزياء، فكانت بالإضافة لأناقتها في وصف النظرية الكهرومغناطيسية، أيضاً هامة في لفت نظر الفيزيائيين إلى أسئلة عميقة مثل ‘كيف يتحول الحقل المغناطيسي إلى آخر كهربائي حسب مرجع الإحداثيات؟’ و أيضاً ‘إن كان الضوء موجة، و الموجة هي اهتزاز وسط ما – حسب الفيزياء الكلاسيكية- إذا ما الذي يهتز ؟’.
حاول العلماء حينها افتراض وسط ساكن يدعى بالأثير، و لكن فرضية الأثير لم تلقى أي دعم من التجارب. و كان الواضح أن على العلماء التخلي عنها. في ورقته بعنوان “Zur Elektrodynamik bewegter Körper” و التي تعني حول إلكتروديناميكا الأجسام المتحركة، وضع أينشتاين نظريته النسبية الخاصة، و التي تبين أن الضوء لا يحتاج لأثير لكي يتحرك فيه، و أن سرعته ثابتة مهما كانت سرعة المراقب له و بأي محور إحداثيات و لكن ما يتغير هو الزمن و الطول؛ فكلما زادت سرعتك سارت ساعتك بشكل أبطأ و مر الزمن عليك بشكل أبطأ!
هذه الورقة غيرت مفهومنا عن الزمان و المكان، أو ما قد أصبح الزمكان حينها. المذهل أنها معتمدة على مراجع قليلة و رياضيات ليست بالمعقدة. و لكنها كانت ورقة حتماً تاريخية . سميت بالنسبية الخاصة لأنها تتداول محاور الإحداثيات العطالية فقط (التي تتحرك بسرعة ثابتة) و التي قام أيشتين بتعميمها في 1915 بنظريته النسبية العامة ليغير فيزياء نيوتن حينها بالمطلق! حيث زمن نيوتن الثابت الذي يسري مستقلاً عن غيره أصبح نسبياً و متغيراً و يختلف من مراقب إلى آخر !
منذ أكثر من 23 قرن و الجدال حول وجود الذرة لازال قائماً إلى أن نشر أينشتاين ورقته بعنوان “Über die von der molekularkinetischen Theorie der Wärme geforderte Bewegung von in ruhenden Flüssigkeiten suspendierten Teilchen” و التي تعني: حول حركة الدقائق (أي الجزيئات) الصغيرة المعلقة في سائل غير متحرك كمتطلب للنظرية الحركية للحرارة. طرح فيها أينشتاين أن تلك الدقائق المعلقة في سائل أو غاز – كذرات الغبار – حتى لو كان الهواء غير متحرك ليست إلا دليلاً على وجود الذرات حيث بسبب الحرارة تتحرك الذرات و تتصادم مع تلك الدقائق محدثة الحركة البراونية التي وصفها في عنوان ورقته.
لم ينه أينشتاين سنته العجائبيه بعد! المعادلة الشهيرة التي يعلمها حتى أقل الناس إطلاعاً على الفيزياء والتي تنسب له ط = ك×ع^2 بالرغم أن المعادلة ذاتها لم تظهر في ورقته “Ist die Trägheit eines Körpers von seinem Energieinhalt abhängig?”. يمكن ترجمة العنوان إلى: هل لعطالة الأجسام علاقة بمقدار الطاقة التي تحتويها ؟ وقد كانت تلك العلاقة نتيجة لنسبية الكتلة، فتخيلوا قطاراً يحاول مسابقة الضوء! يسري أسرع فأسرع، ويحرق المزيد من الوقود ليحوله لطاقة حركية، ولكن هذا القطار لن ينجح بسباق الضوء حسب النسبية لأن الزمن سيبطئ، و لكن أين ستذهب كل تلك الطاقة ؟
الجواب: ستذهب لكتلة القطار، فسيصبح أكثر كتلةً شيئاً فشيئاً كلما حاول السير بسرعة أكبر ( سرعات تقارن بسرعة الضوء) .
و من هنا، العلاقة أعلاه وحدت بين الكتلة و الطاقة، و غيرت مفهومنا عنهما. فلم نعد ننظر للطاقة على أنها مستقلة عن المادة بعد الآن !
بالرغم من الاحباط الذي مر به أينشتاين بالفترة بين تخرجه من كلية العلوم و 1905 إلا أن السنة هذه غيرت مجرى حياته كما غيرت مجرى الفيزياء أيضاً !
المصطلحات:
تكميم الطاقة (Quantisation of Energy)
طاقة العتبة (Threshold)
المراجع :
- كاكو ميتشو، كون أينشتين- كيف غيرت رؤى أينشتاين من إدراكنا للزمان و المكان، ترجمة شهاب ياسين.
- Greene, B. (2007). The fabric of the cosmos: Space, time, and the texture of reality. Random House LLC.
- Penrose, R., & Jorgensen, P. E. (2006). The road to reality: a complete guide to the laws of the universe. The Mathematical Intelligencer, 28(3), 59-61.
- Das wunderjar Albert Einsteins, Josef Honerkamp (الرابط المباشر)
- Einstein, Albert (1905). “Über einen die Erzeugung und Verwandlung des Lichtes betreffenden heuristischen Gesichtspunkt”. Annalen der Physik 17 (6): 132–148.
- Einstein, Albert (1905). “Über die von der molekularkinetischen Theorie der Wärme geforderte Bewegung von in ruhenden Flüssigkeiten suspendierten Teilchen”. Annalen der Physik 17 (8): 549–560.
- Einstein, Albert (1905-06-30). “Zur Elektrodynamik bewegter Körper”. Annalen der Physik 17 (10): 891–921.
- Einstein, Albert (1905). “Ist die Trägheit eines Körpers von seinem Energieinhalt abhängig?”. Annalen der Physik 18 (13): 639–641
Great article , thank you ^_^