لماذا يقلق الناس أكثر من اللازم؟

كتابة: مارك ليري.
ترجمة: بلقيس الصالح.

يمتلك الإنسان القدرة على التفكير في حياته بالمستقبل البعيد، وذلك بعكس الحيوانات التي تتجاوب مع الحياة لحظةً بلحظة، إذ تسمح لنا قدرتنا على تخيل المستقبل من تطويع سلوكنا في سبيل الحصول على النتائج المرجوّة لاحقاً، فالوعي بالذات مهمٌ للتخطيط للمستقبل، تطوير الذات، وتفادي المخاطر المستقبلية. وعلى الرغم من أن التفكير في المستقبل أمر في غاية الأهمية لحياتنا، إلا أن معظمنا يفكر في المستقبل أكثر مما يلزمه لتدبير حياته بفعاليةٍ، فكثرة التفكير في المستقبل يشتتنا عن أحداث حياتنا الحاضرة، والأسوأ من ذلك هو أنه يغذي قدراً كبيراً من القلق بشأن ما يمكن أن يحدث غداً، الأسبوع القادم، السنة القادمة، أو حتى بعد عقودٍ من الآن، بينما تشعر الحيوانات بالخوف عندما تواجه خطراً واقعياً، ولا يبدو عليهم القلق مما قد يحدث في المستقبل.

لو لم نكن نقلق إلا من الأحداث التي ستحدث فعلاً، ولو كان القلق يساعدنا دوماً على التعامل مع مشاكل المستقبل بشكلٍ فعال أكثر، لكانت قدرتنا على استشراف المستقبل نعمةً لا تقدر بثمن، لكن معظم القلق بلا طائلٌ. فغالبية ما نقلق بشأنه لا يحدث، ولو حدث فنادراً ما يكون بالسوء الذي تخيلناه، وحتى لو حدث ما توقعناه فإن القلق المسبق نادراً ما يساعدنا على التأقلم. ولكن إن كان القلق عادةً غير مجديةً، بل والأسوأ أنه قد يعيق قدرتنا على التأقلم، فلماذا لا يزال الناس يقلقون كثيراً؟ لماذا الناس مبتلون بالقلق وهو غير ذي فائدةٌ بل مضرٌ؟

اقترح أخصائي علم النفس الاجتماعي في جامعة جورجيا ليونارد مارتن جواباً مثيراً للاهتمام، حيث يعتقد أن قلق الانسان حيال مستقبله لم يكن يُشكل مشكلةً حتى عشرة آلاف سنة مضت أو ما شابه، فلقد كان لدى أسلافنا ما قبل التاريخ قبل ذلك القدرة على التفكير فيما قد يحدث في المستقبل، ولكن أسلوب حياة الصيد وجمع الثمار الذي كانوا يتبنونه لم يثر لديهم قدراً كبيراً من التفكير غير الضروري في المستقبل. حيث كانت الحياة تعاش يوماً بيومٍ لملايين السنين دون أهدافٍ بعيدةٍ المدى في سبيل جمع الممتلكات، النجاح، أو تطوير حصة المرء من الحياة، فلقد كان أسلافنا ما قبل الانسان يركزون على ما يجب أن يُفعل اليوم تاركين الغد للغد، فالصيادين وجامعي الثمار الرُّحل بلا بيوتٍ أو ممتلكاتٍ أو أهداف بعيدة المدى لا يملكون ما يستدعي التفكير في أكثر من اليوم أو اليومين القادمين.

لكن عندما بدأت الثورة الزراعية قبل حوالي عشرة آلاف سنةٍ، بدأ الناس بالتفكير في المستقبل بإفراطٍ، إذ كان لا بد على من يعتمد على الزراعة كمصدر عيشٍ أن يفكر ملياً في مستقبله بعكس الصيادين وجامعي الثمار، فعلى المزارعين التخطيط للزرع، كيفية العناية بمحاصيلهم، حصادها، وتخزينها. ولأن هناك الكثير من العوامل التي يمكن أن تدمر المحاصيل، قلق المزارعون كثيراً من الطقس، الحشرات، وعما إذا كانت هذه المحاصيل ستثمر أم لا؟ ومن ثم حماية محصولهم من السارقين، القوارض، والعفن.

إن مما يزيد الأمر سوءاً هو أن نتاج جهد هؤلاء المزارعين وعما إذا كانوا سيحصلون على طعامٍ كافٍ يقيهم الجوع هو أمرٌ غير مؤكدٌ، فمهما كانت الظروف الحالية جيدةً، فيمكن للجفاف، الغزو، الفرار الجماعي، أو النهب أن يسلبوا جهد المُزارع في غمضة عينٍ، تاركين عائلته تتضور جوعاً، فلا يمكن أن يشعر المزارعون بالأمان حيال مستقبلهم أبداً، حتى لو بدا أن كل شيءٍ يسير على ما يرام.

علاوةً على ذلك، غيرت الزراعة في أسلوب حياة الانسان من العشائر البدوية إلى المجتمعات الاتكالية الكسولة، إذ امتلك الناس بيوتاً لأول مرةٍ في حياتهم، ماشيةً، وموارد غذائيةً، ولهذا كان عليهم أن يكونوا يقظين لحماية ممتلكاتهم. كما أن الزراعة كانت مرتبطةً بتقسيم العمل والأدوار الاجتماعية، مما يجعل هؤلاء الناس لا يقلقون على مستقبلهم فحسب، بل على رفاهية كل هؤلاء الذين يعتمدون على محاصيلهم، فإن كنت أخطط لأن أبيع لك بعضاً من قمحي مقابل بعضاً من دجاجك، فسأقلق على دجاجك وصحتك إضافة إلى قلقي على محصولي.

إن كان مارتن على حق، فلقد جلبت الثورة الزراعية معها مجموعةً جديدةً من الضغوطات النفسية، حيث نقلت الناس من نمط حياة الصيادين وجامعي الثمار الذي يتسم بالبساطة والتركيز على اليوم والأجوبة الحاضرة فيما إذا كانوا سيستوفون حاجاتهم الأساسية، إلى نمط حياةٍ يكرس الناس فيه كل جهودهم وكل يومٍ في سبيل نتائج غير مؤكدةٍ في المستقبل البعيد. ولقد كان الناس غير مهيئين للتعامل مع الشكوك وعدم اليقين في المستقبل، وذلك لأنهم نشأوا في بيئةٍ تلقوا فيها أجوبةً فوريةً يوميةً عن كيفية حياتهم.

إن التغيرات المستمرة في حياتنا جعلت هواجسنا حول المستقبل أسوأ حتى مما كانت عليه وقت الثورة الزراعية، حيث يقضي الناس في المجتمع المتحضر الكثير من وقتهم في التفكير حول أهدافهم المستقبلية، التخطيط لها، العمل عليها، والقلق بشأنها. كما أن الكثير من أهدافنا (كالرواتب والاجازات) قد تحل بعد يومٍ أو أسبوعٍ، بينما البعض الآخر (كالدرجة العلمية، المهنة، الترقيات، المنزل الجديد والتقاعد) ربما بعد سنواتٍ من الآن. وإن أكثر ما نفعله يومياً يهدف إلى نتائجٍ نتمنى الحصول عليها في المستقبل بدلاً من التركيز على اليوم، على عكس أسلافنا الصيادين وجامعي الثمار.

نادراً ما نستطيع استشعار تقدمنا باتجاه أهدافنا الهامة، لقد كان البشر ما قبل التاريخ يعرفون عما إذا استطاعوا تحصيل ما يصبون إليه من أساسيات حياتهم (خاصةً الحصول على الطعام وتجنب المخاطر) بشكلٍ يوميٍ، بينما نمضي معظم حياتنا كأولئك المزارعين الأوائل نركز على نتائج وأحداث بعيدةٍ وغير مؤكدةٍ، ولقد وجد مارتن في تحليله أن القلق أصبح منتشراً أكثر بكثير بعد عصر الثورة الزراعية، حيث بدأنا بإمضاء وقتٍ أكثر بكثيرٍ في التركيز والقلق على مستقبلنا. ومن المؤكد أن الحياة الحديثة تتطلب منا التفكير في أهدافنا المستقبلية والعمل على تحصيلها، وبالتالي فإننا لن نتوقف عن التفكير في المستقبل حتى ولو استطعنا، ولكن يمكننا على الأقل أن نحمي أنفسنا من التأملات المستقبلية غير المجدية وغير الهامة، كما يمكننا البحث عن طرقٍ لإبعاد أفكارنا عن ذهنٍ بات مشغولاً في كثيرٍ من الأوقات بالتركيز على المستقبل.

المصدر (Psychology Today)

المصطلحات:
الصيادون وجامعو الثمار hunter-gatherers
عالم النفس الاجتماعي Social psychologist
جامعة جورجيا University of Georgia
ليونارد مارتن Leonard Martin
الثورة الزراعية agricultural revolution

السعودي العلمي

Comments are closed.