المواد الكيميائية الضارة من حولنا: الخطر المحدق بصحة الأجيال

كتابة: د. عبد الله النقيدان (أستاذ مساعد بالسموم الطبية والسموم الجينية، كلية العلوم الطبية التطبيقية، جامعة القصيم). 

قليلةٌ هي الاكتشافات الطبية التي تؤثر على حياة المليارات من البشر على مر التاريخ، ولكن الجيلان السابقان كانا محظوظين كفايةً ليشهدا أحد هذه الإنجازات الطبية الهامة التي نعيش أثارها لليوم والممتدة للمستقبل بالتأكيد. فقبل بضعة عقودٍ، اكتشف الباحثون أن الأطفال معرضون أكثر لضرر التسمم بالمواد الكيميائية في البيئة مقارنةً بالبالغين، وأدى هذا الاكتشاف إلى اعتبار التعرض للمواد الكيميائية في وقت مبكرٍ من الحياة كسببٍ هامٍ للمرض في سنٍ مبكرةٍ أو متأخرةٍ، والأهم أنه وضح إمكانية وقاية السكان من تلك الأمراض بحمايتهم من المواد السامة، ما دفع صناع القرار والجهات التنظيمية لمراجعة القوانين المعمول بها، ووضع سياساتٍ جديدةٍ تنظم إنتاج المواد الكيميائية الصناعية واستهلاكها.

يمكن أن نقول بأن شرارة الوعي بخطورة الحال انطلقت من الدراسات التي أجرتها عدة مؤسساتٍ لحماية البيئة والصحة في الولايات المتحدة الأمريكية، والتي وجدت أن التعرض المبكر لبعض المواد الكيميائية السامة يؤدي لظهور المرض والخلل الوظيفي في الأطفال والبالغين، ومن أبرز الأمثلة على هذه المواد الرصاص، الزئبق، المبيدات الحشرية، بعض مانعات الاحتراق، بعض المواد المُستخدمة في صناعة الإلكترونيات، والأبخرة الناتجة من عوادم السيارات. ولقد بينت الدراسات أيضاً أن الوقاية من الأمراض الناجمة عن التعرض لهذه المواد الكيميائية ممكنٌ، وبالتالي تجنب المرض، تعزيز جودة الحياة، إنقاذ الأرواح، تخفيض تكاليف الرعاية الصحية والتعليم، وزيادة الإنتاجية الوطنية.

فلنعرج سريعاً على أحد أبرز الأمثلة على المواد الكيميائية الضارة المعروفة وهو الرصاص، ولنركز قليلاً على التجربة العالمية في إزالة الرصاص من وقود السيارات: لقد أدى هذا الإجراء لوحده إلى خفض التسمم بالرصاص أكثر من 90% وأنتج فوائد اقتصاديةً سنويةً تقدر بما بين 110 بليون دولارٍ – 319 بليون دولار. وليدرك القارئ حجم المشكلة قبل أن يُقرر وقف استخدام الرصاص في الولايات المتحدة الأمريكية مثلاً، بلغ متوسط مستوى الرصاص في الدم ذروته في منتصف السبعينات عند 17 ميكروغرامٍ لكل ديسيلتر، وهو مستوى أعلى بكثير من المستوى المقبول الذي حددته إدارة “مراكز التحكم بالأمراض واتقائها” عند 10 ميكروغرام لكل ديسيليتر فقط.

إن هذه المستويات المرتفعة من الرصاص في الدم مرتبطةٌ بانخفاض الذكاء والسلوكيات العنيفة والتخريبية في الأطفال كما أثبتت الدراسات الوبائية، ولقد تبين أن كل زيادةٍ بمقدار 3 ميكروغرامٍ لكل ديسيلتر في مستوى رصاص الدم يترافق مع انخفاضٍ بمقدار 0.5-1.0 نقطةٍ في مستوى الذكاء، والمخيف هو أن هذه التأثيرات ظهرت في غيابٍ لأي أعراضٍ سريريةٍ أو مرضٍ واضحٍ، ما دفع العلماء لتسميتها بالتسمم الصامت بالرصاص. ولقد وجدت الدراسات أربعة عوامل في الأطفال بالخصوص تساهم في زيادة تضررهم البدني والعقلي عند تعرضهم للمواد الكيميائية في البيئة.

كان أول العوامل هو ارتفاع معدل تعرض الأطفال للمواد الكيميائية السامة بالنسبة لوزن الجسم مقارنةً بالبالغين، حيث يتناول الأطفال حوالي ثلاثة أضعاف السعرات الحرارية لكل كيلوجرامٍ من التي يتناولها البالغون، كما أن نسبة الهواء التي يستنشقها الرضيع لكل كيلوجرامٍ هي ضعف نسبة الشخص البالغ، ما يؤدي إلى تعرض الأطفال للمواد السامة في الهواء، الغذاء، والماء بصورةٍ غير متناسبةٍ، ولا ننسى سلوك الوحم في الأطفال الذي يدفعهم لتناول أي غرضٍ أمامهم، ما يجعلهم عرضةً للملوثات الكيميائية على التربة والأرض لسهولة الوصول إليها. ومن هنا ننتقل للعامل الثاني المؤثر على الأطفال وهو عدم نضوج مسارات العمليات الاستقلابية فيهم، حيث ستحاول أجهزة الجسم المختلفة التخلص من المواد الضارة بعد دخولها، ولكنها تفتقر إلى الإنزيمات اللازمة لتكسير وإزالة المواد الكيميائية السامة في تلك السن المبكرة، ما يعني أن قدرة الطفل على استقلاب المواد الكيميائية السامة وتحويلها إلى موادٍ حميدةٍ أقل من البالغين.

بعد أن تدخل المادة السامة لجسم الطفل وتقف أجهزته عاجزةً أمامها، نأتي للعامل الثالث المؤثر وهو سهولة تعطل عمليات النمو المبكرة في الأطفال، حيث تمتاز الفترة الزمنية للحمل والسنوات الأولى بعد الولادة بالنمو السريع والمعقد التصميم، وتستمر بوتيرةٍ أبطأ قليلاً خلال مرحلة الطفولة حتى سن البلوغ، حيث تتشكل مليارات الخلايا في الدماغ على سبيل المثال، وتتباين هذه الخلايا في الوظيفة وتترابط ببعضها عبر تريليونات المشابك العصبية الدقيقة في هذه المرحلة المبكرة، وبالمثل يتطور الجهاز التناسلي بتسلسلٍ زمنيٍ تحدده الرسائل الكيميائية والهرمونية. وتُسمى هذه المرحلة العمرية الحاسمة في النمو المبكر بـ”نوافذ الضعف”، وهي الفترة التي يكون فيها التعرض للمواد الكيميائية السامة خطراً ولو كان بمستوياتٍ منخفضة جداً، ويمكن أن يتسبب في عيوبٍ وظيفيةٍ وخلقيةٍ تدوم مدى الحياة وإن لم يكن لهذه المستويات أي أثرٍ سلبيٍ على البالغين. فعلى سبيل المثال، إذا تعرضت خلايا دماغ الرضع للمبيدات حشرية، ستشمل العواقب التخلف العقلي وزيادة خطر حدوث أمراض الاضمحلال العصبي كمرض باركنسون عند التقدم في السن.

بعد أخذ العوامل الثلاثة السابقة بعين الاعتبار، نأتي للعامل الرابع وهو أن التعرض المبكر الأطفال للمواد السامة يمهلهم الكثير من الوقت لتطوير الأمراض المزمنة، فمن المعروف أن بعض الأمراض الناجمة عن التعرض للسموم كالسرطان والأمراض العصبية تتطور عبر عملياتٍ طويلةٍ، والتي تبدأ عند التعرض في مرحلة الطفولة الأولى، ولقد حفزت هذه المعلومات أبحاثاً جديدةً تنظر في تأثير العوامل البيئية والكيميائية على الصحة، وتشمل البحوث البارزة دراساتٍ بيئيةٍ في الولايات المتحدة الأمريكية واليابان. ويجدر بالذكر أن البيئة التي يعيش فيها الأطفال تغيرت كثيراً في السنوات الخمسين الماضية، ولا سيما كمية المواد الكيميائية التي يتعرضون لها بصورةٍ روتينيةٍ، إذ اخترعت أكثر من 80,000 مادةٍ كيميائيةٍ اصطناعيةٍ جديدةٍ مُستخدمةٍ في ملايين المنتجات الاستهلاكية خلال هذا الوقت، بدءاً بحفظ الأطعمة، تغليف المواد الغذائية، حياكة الأقمشة والملابس، صنع مواد البناء، منتجات التنظيف، مستحضرات التجميل، وألعاب الأطفال.

لقد كشفت الدراسات الاستقصائية الوطنية التي أجرتها مراكز مكافحة الأمراض واتقائها عن حقيقةٍ مخيفةٍ، إذ عُثر على 200 مادةٍ كيميائيةٍ مختلفةٍ في دم وبول جميع الأمريكيين تقريباً وبما فيهم النساء الحوامل، ولا نعلم تماماً تأثير هذه النتيجة على صحة الإنسان حتى الآن ولكنها مقلقةٌ بالتأكيد، فمعظم هذه المواد الكيميائية لم تخضع حتى للتحقق الأدنى من السمية المحتملة، ولم يتم فحص سوى حوالي 20% منها فقط لمعرفة قدرتها على تعطيل النمو البشري المبكر والضرر المحتمل على الرضع والأطفال. وعلى الكفة الأخرى، ما زالت المواد الكيميائية الضارة والمعروفة بسميتها منتشرةً بالفعل، إذ وجدت الدراسات رابطاً بين سرطان الدم الحاد في الطفولة والتعرض لمبيدات الحشرات، كما قام فريقٌ بحثيٌ بمقارنة النمو الإدراكي لمجموعتين متقاربتين من الأطفال في المكسيك، إحداهما تعرضت للمبيدات الحشرية والأخرى كانت في منأىً عنه، فوجد الباحثون أن الأطفال الذين تعرضوا للمبيدات الحشرية كانوا يعانون من انخفاضٍ في قدرة التحمل، خللاً في التنسيق الإجمالي بين العين واليد، مشاكل في الذاكرة، انخفاضاً في التركيز، وصعوبةً في الرسم.

رسومات الأطفال الذين تعرضوا للمواد الضار مقارنةً
بالأطفال الذين لم يتعرضوا لها

أما بالنسبة للبلاد التي يكثر فيها التلوث الجوي، يؤدي انتشار أبخرة المواد الكيميائية الصناعية في البيئة إلى زيادة الأمراض التنفسية كالربو، وهو أحد أكثر الأمراض المزمنة شيوعاً في الأطفال عالمياً، ولقد زاد معدل انتشاره بين الأطفال الأمريكيين أكثر من الضعف خلال السنوات العشرين الماضية. ولا يمكن أن نعرج على موضوعٍ كهذا دون أن نذكر أحد أشد المواد الكيميائية خطورةً وأسوئها سمعةً وهو ثنائي الفينيل متعدد الكلور، حيث كان يُستخدم في الكثير من الصناعات الإلكترونية والميكانيكية حتى عام 1983مـ، ولكن الجهود الدولية أوقفت تصنيعه واستخدامه عالمياً بعدما وجدت الأبحاث أن التعرض له في مرحلة ما قبل الولادة مُرتبطٌ بانخفاض الذكاء، ضعف المناعة، الاضطرابات الهرمونية، انخفاض وزن الولادة، وسرطان الجلد والكبد، ولكنه ما يزال متواجداً في الكثير من البيئات حول العالم في التربة والشبكة الغذائية.

إن هذا مجرد استعراضٍ سريعٍ لنتائج أبحاثٍ ودراساتٍ أثبتت خطورة بعض الكيماويات الحديثة، والهدف منه هو تنبيه الآباء والمربين إلى خطرها خاصةً مع انتشار المصانع، المنتجات المنزلية، منتجات العناية الشخصية والتجميلية، وألعاب الأطفال التي يسهل الوصول إليها، والتي قد تحوي خليطاً ضاراً من المواد الكيميائية والمعادن التي تمتصها أجسامنا ويعيش في ظل خطرها أطفالنا. وإن هذه المواد الكيميائية المنتشرة في الهواء والتربة والغذاء تتزايد باستمرار، ما يستوجب أن يكون هناك توجهٌ صارمٌ بفحص وتشريع جميع هذه المركبات الكيميائية قبل وأثناء تصنيعها وإنتاجها للسوق، وفلنتذكر دائماً أن أصغر جرعةٍ من المبيدات الحشرية أو من هذه المركبات الكيميائية يُمكن أن تؤثر على صحة الأطفال ونموهم لبقية حياتهم.

المصادر:

Guillette EA, Meza MM, Aquilar MG, Soto AD, Garcia IE. An anthropological approach to the evaluation of preschool children exposed to pesticides in Mexico. Environmental Health Perspectives. 1998;106(6):347-353.

Menegaux F, Baruchel A, Bertrand Y, et al Household exposure to pesticides and risk of childhood acute leukaemia Occupational and Environmental Medicine 2006;63:131-134.

Children’s Vulnerability To Toxic Chemicals: A Challenge And Opportunity To Strengthen Health And Environmental Policy Philip J. Landrigan and Lynn R. Goldman

Health Affairs 2011 30:5, 842-850

Alnuqaydan AM, Sanderson B (2016) Genetic damage and celll killing induction by five head lice treatments on HaCaT human skin cells. J Carcinog Mutagen 7.

US FDA

السعودي العلمي

Comments are closed.