نافذة على مدن المستقبل الذكية

كتابة: د. سعود بن عبدالله العشري، عالم بيانات بمركز اتخاذ القرار للأبحاث.
مراجعة وتحرير: فريق السعودي العلمي.

اربطوا أحزمة الأمان، فسوف أخذكم معي في رحلةٍ معي إلى 30 عاماً في المستقبل في السطور القادمة، لأطلعكم من خلالها على نمط الحياة الجديد والتغيرات المستقبلية المتوقعة التي ستعيشها الأجيال القادمة. وإني متأكدٌ بأن الكل سمع عن مشروع مدينة نيوم الضخم الذي أعلن عنه سمو ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان في منتدى مستقبل الاستثمار بالعاصمة الرياض قبل بضعة شهور، والتي تخبرنا المعلومات المتوفرة عنها أن ستكون أحد أبرز المدن الذكية عالمياً التي ستبنى من الصفر، ولكن ماذا نعلم عن تفاصيل الحياة اليومية فيها ودور التقنيات المتقدمة كالذكاء الاصطناعي وإنترنت الأشياء في مثل هذه المدن؟ سنستعرض هنا الجوانب الرئيسية في المدن الذكية ودور الذكاء الاصطناعي فيها، والأثار الاجتماعية والاقتصادية المترتبة على استخدام التقنيات الناشئة والأتمتة (الأتمتة مصطلح يطلق على الآلات التي تعمل تلقائياً بدون تدخل الانسان).

وسائل النقل
ستكون وسائل النقل أولى الجوانب التي ستخضع للتغيير الجذري، حيث سيستخدم أسطولٌ من السيارات ذاتية القيادة للتنقل، تحت إشراف كبرى الشركات العالمية الرائدة في أبحاث القيادة الذاتية كأوبر، غوغل، وتيسلا، ما سيوفر إمكانية التنقل للسكان بوسيلة نقلٍ قليلة التكلفة ومستوى التزامٍ كبيرٍ بالأنظمة المرورية ونسبة حوادث لا تكاد تُذكر، فلن تشاهد حينها سائقاً يقطع الاشارة أو يقود بسرعةٍ عاليةٍ ليخطف الأرواح بقيادته المتهورة، كما ستقوم الشاحنات ذاتية القيادة بنقل البضائع الثقيلة وستوصل الطائرات الصغيرة ذاتية القيادة الطلبات إلى بيتك بدلاً من دباب البقالة. وفي نفس الوقت، ستجمع وسائل النقل البيانات الضخمة عن كل ما يتعلق بها لاستخدامها في تزويد خدماتٍ مخصصةٍ بحسب الأفراد، زيادة فعالية الرحلة، تجنب الزحام المروري، ومنع إهدار الموارد.

يتوقع أن تكون مدينة نيوم نظيفةً بالكامل وأن تعمل على الكهرباء الموّلدة من مصادر نظيفةٍ ومتجددةٍ، ما يعني منع استخدام السيارات التي تسير على الوقود الأحفوري بداخلها أسوةً بالعواصم الدولية، سعياً لجعلها مدينةً صديقة للبيئة ومن دون أي انبعاثاتٍ من الغازات المسببة للاحتباس الحراري. ولكن كل هذا التطورات ستكون ذات أثارٍ جانبيةٍ أيضاً على مختلف القطاعات، فلن يجني نظام ساهر للمخالفات المرورية الكثير من الأموال كما هو حاصلٌ الآن، كما قد يستغني البعض عن خدمات شركات التأمين في تأمين المركبات نظراً لانعدام الحوادث.

الأياد العاملة
ستحل الروبوتات محل اليد العاملة في الأعمال الروتينية المتكررة، كخطوط الإنتاج في المصانع وأعمال التنقيب ومزارع المحاصيل والماشية، وستكون قادراً على اقتناء روبوتٍ يقوم بالمهام المنزلية من إعداد الطعام والتنظيف وغيرها، وكلّ ما عليك فعله هو إعطائه الأوامر وتحميل وصفة الطعام المُراد طبخها وتحميل برنامجٍ جاهز من الإنترنت لطبخ شريحة لحمٍ مشويٍ أو معكرونة ألفريدو بالجبنة، لتجد الطبق ساخناً وجاهزاً وقت رجوعك من العمل. وسنرى تصاعداً لاستخدام التقنية والطباعة ثلاثية الأبعاد في بناء المساكن وتزويد خدمات بناء الأساسات والسباكة، وستستبدل المطاعم والمقاهي البائعين بأجهزة الأتمتة كما رأينا بالفعل في السنة الماضية عندما استحوذت شركة أمازون على شركة “هول فودز” للتموينات الغذائية، فذلك أقل تكلفةً من اليد العاملة وستخفض قيمة السلع والمنتجات تبعاً لذلك. ولكن الاستغناء عن عمل الانسان في هذه المهن سيجلب الكثير من التحديات الاجتماعية، حيث ستدفع التطورات المجتمعية جزءاً كبيراً من العمالة غير المدربة إلى البطالة.

القطاع الصحي
هنيئاً للأطباء، فمن المتوقع أن يكون الطب أحد أكبر القطاعات التي ستتطور بمساهمة الروبوتات، إذ يعمل الباحثون حالياً على صنع روبوتاتٍ تساعد الجراحين على إجراء عملياتٍ جراحيةٍ دقيقةٍ ومعقدةٍ بدقةٍ حتى وإن تطلبت 50 ساعةً من العمل المتواصل، كما أن باحثو شركة إي بي إم يعملون على تطوير حاسوب واتسون الخارق ليصبح أداةً ذكيةً للتشخيص وتحليل البيانات. كما ستتحسن جودة ونوعية الخدمات المقدمة في عصر الذكاء الاصطناعي والأتمتة، فلن تحتاج إلى واسطةٍ لتجد موعداً مع طبيبٍ أو لتحصل على سريرٍ للتنويم في المستشفى، كما سيقل الإنفاق على رواتب الكادر الطبي، ما سيجعل مراجعة المستشفيات أقل تكلفةً وأعلى جودة، مما ينعكس إيجابياً على الصحة العامة للأفراد.

 

قطاع التعليم
ستُقدم أغلب المناهج الدراسية من على منصاتٍ إلكترونيةٍ في التعليم العام والجامعي، كما نرى بالفعل في منصات رواق، إدراك، دروب، خان أكاديمي، أوداسيتي، وإد إكس، وغيرها الكثير. وستقوم البرمجيات الذكية بتقديم خدمات المدرس الخصوصي أو ستستخدم في تسهيل الوصول إليها، كما نرى في منصات نون الأكاديمية، فهيم، وعَلمُون. وإن أحد أكبر التحديات التي ستواجه قطاع التعليم عالمياً ستتمثل في مواكبة حاجة الأسواق المتغيرة، حيث ستظهر تخصصات جديدة بتسارعٍ مطردٍ وستندثر أخرى نتيجةً للاستغناء عن بعض المهن، لذلك سيكون على الجامعات استبدال التخصصات غير المجدية ومواكبة تطورات الثورة الصناعية الرابعة.

 

الأمن الداخلي والدفاع
ستساعد الطائرات بدون طيار والروبوتات الشرطة في عملها بالمدن الذكية، وستنخفض معدلات الجريمة والمخالفات نتيجةً لانتشار أدوات المراقبة عن بُعد بأعدادٍ الكبيرة في الشوارع والأماكن العامة، وستستخدم خوارزميات التعرف على الوجوه ومعالجة الصور لتحديد أماكن المطلوبين والقبض عليهم بفعاليةٍ وسرعةٍ قصوى كما بدأت الصين بتطبيقه مؤخراً. ومن ناحية الدفاع، لن تتباهى الجيوش بأعداد أفرادها كما كان في السابق أو بعدد رؤوسها النووية وصواريخها البالستية، بل سيميل ميزان القوى للجيوش الإلكترونية العاملة في خفاء الفضاء السيبراني، والتي تستطيع تدمير البنى التحتية لبلدٍ كامل وإخضاعه للسيطرة دون إطلاق رصاصةٍ واحدةٍ، ولنا في التلاعب بنتائج الانتخابات الأمريكية الأخيرة على يد مخترقي الحواسب الروس عبرةٌ، كما ستلعب الطائرات بدون طيار التي ستمتلك قدرةً تدميريةً فائقةً دوراً مفصلياً أكبر في الحروب القادمة. ولكي تستوعب مقدار الخطر القادم، كل ما عليك فعله هو مشاهدة هذا المقطع المصور التوعوي الذي أعده أحد الأساتذة المحاضرين في مجال الحاسب بجامعة كاليفورنيا فرع بيركلي العريقة.

ماذا بعد؟
هل سنفقد العديد من الوظائف وستزيد الروبوتات من معدلات البطالة؟ الاجابة هي لا على مدى البعيد (ربما 20 سنة)، حيث سيكون هناك مرحلةٌ انتقاليةٌ تتطلب وجود المهن الحالية لمساعدة الناس في تقبل نمط الحياة الجديد، ومساعدة الآلات على التعلم من الواقع والوصول إلى مستوى الاتقان المطلوب. ولقد شهدت الدول الصناعية نفس المرحلة الانتقالية من عصر ما قبل الثورة الصناعية إلى ما بعدها، وكانت المخاوف من ازدياد الفقر والبطالة كما نرى الآن، ولكن تلك المخاوف تبددت بعد إيجاد وظائف جديدةٍ واستبدال المهن المتأثرة قديماً كالفلاحة. وأخيراً، ينبغي على القطاعين الحكومي والخاص إيجاد البيئة الملائمة لنمو القطاعات المذكورة أعلاه، وتوفير مسرعاتٍ وحاضناتٍ تقنيةٍ تساهم في تطور الاقتصاد وتنوعه، لنكون من اوائل الدول في عصر الثورة الصناعية الرابعة.

السعودي العلمي

Comments are closed.