ظهور أدلةٍ فيزيائيةٍ تُشيرُ إلى وجود جسيمٍ أوليٍ جديدٍ

كتابة: ناتاليا وولتشوفر.
ترجمة: ندى خالد.
مراجعة: آسيه الشهراني.

يشعر علماء الفيزياء بشيءٍ من الإثارة والحيرة إثر التقرير الجديد الصادر عن “تجربة مُعزز النيوترينو المصغرة” بمختبر مسرع فيرمي الوطني بالقرب من شيكاغو، حيث رُصدت كميةٌ من نوعٍ محددٍ من النيوترينات أكثر مما كان متوقعاً، وهو اكتشافٌ يمكن تفسيره بسهولةٍ بوجود جسيمٍ أوليٍّ جديدٍ وهو النيوترينو “العقيم”، وهو غريبٌ جداً وأكثر تميزاً من أنواع النيوترينات الثلاث المعروفة، ويبدو أن هذه النتيجة تؤكد النتائج الغريبة لتجربةٍ أُجريت منذ عقود، والتي صُممت تجربة مُعزز النيوترينو المصغرة خصيصاً للتحقق من نتائجها.

يقول الفيزيائي من جامعة كارينجي ميلون وهو سكوت دودلسون: “إنّ استمرار شذوذ النيوترينو مثيرٌ للغاية”، ويضيف آني سلوسار من معمل بروكهافن الوطني: “من شأن ذلك أن يُشير إلى حدوث شيءٍ ما بالفعل”، أما بالنسبة لماهيته فلا أحد يستطيع الجزم. وتقول عالمة فيزياء النيوترينو من معهد ماساتشوستس للتقنية وأحد أعضاء تعاون تجربة مُعزز النيوترينو المصغرة وهي جانيت كونراد: “أنا متحمسةٌ جداً لهذه النتائج، ولكني لست مستعدةً بعد لقول: وجدتها!”.

إنّ من شأن وجود النيوترينو العقيم أن يُحدث ثورةً في الفيزياء من أصغر المقاييس إلى أكبرها، وسيكسر النموذج القياسي لفيزياء الجسيمات الذي ساد منذ السبعينات، ويقول دودلسون: “إن ذلك يتطلب نموذجاً قياسياً جديداً لعلم الكونيات أيضاً”، ويُضيف: “إن هناك تصدّعاتٌ أخرى محتملة في الصورة القياسية، وقد تقودنا مفارقة وجود هذا النيوترينو إلى نموذجٍ جديدٍ وأفضل”.

النيوترينات هي جسيماتٌ صغيرةٌ تعبر خلال أجسامنا بالمليارات كل ثانية، ولكنها نادراً ما تتفاعل، وتتذبذب بشكلٍ مستمرٍ بين ثلاث أنواعٍ أو “نكهاتٍ” تُدعى بـ إلكترون، ميون، وتاو. وشملت تجربة مُعزز النيوترينو المصغرة إطلاق حزمةٍ من نيوترينوات الميون إلى خزان زيتٍ عملاق، وينبغي أن تتحول بعض نيوترينات الميون إلى نيوترينات إلكترون أثناء طريقها إلى الخزان، بمعدلٍ يحدده الفرق في الكتلة بين الاثنين.

إن دور تجربة مُعزز النيوترينو المصغرة هو مراقبة وصول نيوترينوات الإلكترون، والتي تُطلق ومضاتٍ إشعاعيةٍ مميزةٍ في حالاتٍ نادرةٍ عندما تفاعلها مع جزيئات الزيت، ولقد سجلت تجربة مُعزز النيوترينو المصغرة بضع مئاتٍ من نيوترينوات الإلكترون أكثر من المتوقع خلال 15 عاماً من تشغيلها، وإن أبسط تفسيرٍ لهذا العدد المثير للدهشة بأن بعض نيوترينوات الميون تتذبذب إلى نوعٍ رابعٍ مختلفٍ وأثقل. وسمي هذا النوع بالعقيم لأنه لا يتفاعل مع أي شيءٍ سوى النيوترينو، وأن بعض النيوترينات العقيمة تتذبذب إلى نيوترينات الإلكترون، حيث أنّ فرق الكتلة الكبير يحتم وجود معدّلٍ أعلى من التذبذبات والمزيد من الرصد.

لقد رصد الكاشف الوميضي السائل للنيوترينو في لوس ألاموس شذوذاً مماثلاً في التسعينيات، مما دفع لبناء تجربة مُعزز النيوترينو المصغرة، إلا أن تجارب النيوترينو الأخرى التي تعمل بشكلٍ مختلفٍ عنهما فشلت في رصد علامةٍ واضحةٍ على النيوترينو العقيم المفترض، يقول فيرنر روديهوهان من معهد ماكس بلانك للفيزياء النووية في هايدلبرج بألمانيا: “إنّ لعنة هذا العمل هي أن بعض التجارب ترى شيئاً ما بينما البعض الآخر لا يفعل ذلك”.

إذا كانت النيوترينات العقيمة تفسر النتائج الجديدة، فسيكافح الفيزيائيون لمعرفة كيف يُمكن أن تتوافق خصائص هذه الجسيمات الجديدة مع كل ما نعرفه، ولعل أكثر ما يثير القلق من بينها هو أن المشاهدات الكونية للضوء من الكون المبكر تشير إلى وجود ثلاث نكهاتٍ فقط للنيوترينوات آنذاك، ويقول سلوسار أننا بحاجةٍ إلى “إطارٍ نظريٍّ جديدٍ بالكامل” لفهم تجربة الكاشف الوميضي السائل للنيوترينو وتجربة مُعزز النيوترينو المصغرة، وكل التجارب الأخرى القائمة حتى اليوم.

قد يطابق النيوترينو العقيم بيانات تجربة مُعزز النيوترينو المصغرة نظرياً، إلا أنه لا يحل أياً من الألغاز التي قادت الفيزيائيين إلى افتراضه في المقام الأول، ومن الممكن أن يقوم النيوترينو العقيم مقام المادة المظلمة غير المرئية التي تبتلع المجرات إذا كان ثقيلاً بما فيه الكفاية، وسيشرحون سبب كون نيوترينوات الإلكترون، الميون، والتاو خفيفة الوزن من خلال فكرةٍ رياضيةٍ تدعى آلية التأرجح. ولكن تفتقر النيوترينات العقيمة إلى الثقل الكافي لهذه الأهداف الأخرى لكون طاقتها تقل عن واحد إلكترون فولت، ويقول عالم فيزياء الجسيمات من جامعة روتجرز وهو ماثيو باكلي: “ليس لدينا أي سببٍ يدفعنا لتوقع نيوترينو عقيمٍ بطاقةٍ واحد إلكترون فولت، إلا أن توقعاتنا لم تُوقف الكون من إضافة جزيئاتٍ جديدةٍ في الماضي”.

قاد هذا الالتباس العديد من الخبراء إلى كبح تفاؤلهم، والشك في أن كلاً من تجربة مُعزز النيوترينو المصغرة وتجربة الكاشف الوميضي السائل للنيوترينو قد سقطتا ضحيةً لخطأٍ غير معروفٍ، وتجادل عالمة الفيزياء في جامعة بروكسل الحرة فريا بليكمان بأن هذه التجارب قد قللت من تقدير معدل تحلل جسيماتٍ تُدعى البيونات المتعادلة بشكلٍ منهجي داخل خزان الزيت في تجربة مُعزز النيوترينو المصغرة، وهذا الحدث يُنتج إشارةً مشابهةً لتلك التي تنتجها نيوترينوات الإلكترون. ويقول الفيزيائي النظري من جامعة نيويورك وهو نيل وينر: “من المؤكد أن هناك شيءٌ لفهمه، وأنا أتمنى بالتأكيد أن يكون هناك نيوترينو رابع، حيث سيكون هذا أول جسيمٍ يُكتشف خارج النموذج القياسي، ولذلك فإنّ عتبة قبول الأدلة مرتفعة جداً. وأنا أتخذ نهج الانتظار والترقب حالياً”.

ستجلب التجارب المستقبلية إجابةً أكثر تحديداً، بما في ذلك تجربةٌ تسمى آيسودار، والتي اقترحها كونراد وعددٍ من زملائها. وسيتم فيها رصد النيوترينو وهو يتذبذب بين النكهات أثناء سيره بدلاً من حساب عدد النيوترينات من نكهةٍ معينةٍ في نهاية الشعاع، وهذا سيعطي صورة أكثر كمالاً للتذبذب، وتقول كونراد “لست مستعدة لرهن أموالي بعد لأنه كالفقاعة، وأريد أن أرى هذا التذبذب بدلالاتٍ عالية لكي أقتنع حقاً”.

المصدر (Quanta Magazine)

المصطلحات:
سكوت دودلسون Scott Dodelson
مختبر مسرع فيرمي الوطني Fermi National Accelerator Laboratory
جامعة كارنيجي ميلون Carnegie Mellon University
النيوترينو العقيم sterile neutrino
تجربة مُعزز النيوترينو المصغرة MiniBooNE
آني سلوسار Anže Slosar
معمل بروكهافن الوطني Brookhaven National Laboratory
جانيت كونراد Janet Conrad
معهد ماساتشوستس للتقنية Massachusetts Institute of Technology
الكاشف الوميضي السائل للنيوترينو The Liquid Scintillator Neutrino Detector
فيرنر روديهوهان Werner Rodejohann
معهد ماكس بلانك للفيزياء النووية Max Planck Institute for Nuclear Physics
ماثيو باكلي Matthew Buckley
جامعة روتجرز Rutgers University
النموذج القياسي لفيزياء الجسيمات Standard Model of particle physics
ميون Muon
تاو Tau
آلية التأرجح seesaw mechanism
البيونات المتعادلة neutral pions
فريا بليكمان Freya Blekman
جامعة بروكسل الحرة Free University of Brussels
نيل وينر Neal Weiner
آيسودار IsoDAR

السعودي العلمي

Comments are closed.