ماهي الآثار الأخلاقية المترتبة على التقنية الناشئة؟

كتابة: الأستاذ المحاضر نايف الروضان.
ترجمة: نورة النزهة.
مراجعة: فارس بوخمسين.

غيرت التقنية من حياتنا جذرياً في العقود الأربعة الماضية، بدءاً من الطريقة التي نعملُ بها، إلى كيفية تواصلنا، ولكيفية خوضنا للحروب. ولم تكن هذه التقنيات دونَ جدلٍ. حيث أثار العديد منها مناقشاتٍ عنيفةٍ. وكثيراً ما استُقطِبت أو تورَّطت في غموضٍ علميٍ أو ديماغوجيا* غشاشةٍ.

على سبيل المثال، أصبح الجدل حول أبحاثِ الخلايا الجذعية وأبحاث الأجنَّة قضيةً سياسيةً ساخنةً تتضمن العلماء، صناع القرار، السياسيين، والجماعاتِ الدينية. وعلى نحوٍ مماثلٍ، حشدت النقاشات حول الكائنات المعدلة وراثياً كُلاً من المجتمع المدني، العلماء، وصناع القرار في نقاشٍ واسعٍ حول الأخلاق والسلامة. وتُعدُّ التطورات في تقنيات تعديل الجينوم مثالاً واحداً على الاعتماد الشديد للأبحاث الحيوية وتأثيرها في سوق السِّلع على القبولِ الاجتماعي، حيث لا يمكنها أن تتجنب النقاشات العامة للنظام والأخلاق. إضافةً لذلك، تتزايد طلبات الشفافية بشكلٍ رئيسيٍ في وسط هذه النقاشات، كما يتبين من حركاتٍ مثل حق المعرفة، والتي طالبت مراراً بوضع بطاقاتٍ تعريفيةٍ بالكائنات المعدَّلة وراثياً على المنتجات الغذائية.

التحديات الأخلاقية والتنظيمية
تتضمَّن قائمة المنتدى الاقتصادي العالمي لأعلى 10 تقنياتٍ ناشئة لعام 2015مـ تقنياتٍ تهدف إلى حلِّ بعضِ الجُدْل الأخلاقية التي أثارها جيلٌ سابقٌ من التقنيات، بالإضافة إلى غيرها التي من شأنها أن تجلب تحدياتٍ أخلاقيةٍ وتنظيميةٍ جديدةٍ. ولا تعني فكرة التقنية الناشئة أن كل هذه التقنيات هي جديدةٌ أو ثوريةٌ بالضرورة بحدِّ ذاتها. فبعضها متوفرٌ بالفعل منذ سنواتٍ أو منذ عقودٍ في أشكال متنوعةٍ (على سبيل المثال: مَركبات خلايا الوقود، الذكاء الاصطناعي، الجينوم الرقمي، وأساليب التصنيع بالإضافة). غير أنها تنتقل الآن لمرحلةٍ جديدةٍ لتصبح مستخدمةً أكثر على نطاقٍ واسعٍ أو مندمجةً في السِّلع الاستهلاكية. فبطريقةٍ أو بأخرى، لا بد وأن تنال كل هذه التقنيات انتشاراً أكثر في السنوات القادمة.

يُرجَّح أن تحل أحد أبرز التقنيات التي سُلط الضوء عليها وهي تقنيات الهندسة الوراثية الدقيقة أحد العناصر الرئيسية المثيرة للجدل في نقاش الكائنات المعدلة وراثياً، وهي على سبيل المثال حقيقة كون الهندسة الوراثية غير دقيقةٍ ولا يمكن التنبؤ بها. فنطاق الإجراءات المرتبطة بالمحاصيل المعدَّلة وراثياً دقيقةٌ في العملية الأولية من قطعِ وتقسيم الموروثات في أنابيب الاختبار. ولكن الخطوات اللاحقة غير منضبطةٍ وقد تظهر بعضُ الطّفرات، مما يستبدِل الوظيفة الطبيعية للموروثات بطرقٍ يحتمل أن تكون ضارةً.

بالطبع، ستكون التقنية الدقيقة ذات الدقَّة الأكثر والتنبؤية الأكبر بالطفرات الوراثية تحسيناً كلياً على الكائنات المعدلة وراثياً. ولكن سيكون من الضروري أن تُدرس هذه التقنية بشكلٍ صحيحٍ وأن تطبَّق بطريقةٍ مستدامةٍ، وألا تمنح تجديداً لشرعيةً الهندسة الوراثية في الزراعة فحسب.

من المتوقع أيضاً مزيداً من الدقة في تشغيل الطائراتِ بدون طيارٍ مع تركيب أدوات الاستشعار والتجنُّب. وسيكون لهذا الأمر فوائداً أمنيةً جليَّةً، حيث تساعد على تجنُّب اصطدام الطائرات بدون طيار مع مثيلاتها أو مع أيّ طائراتٍ أخرى.

الجانب الحرج لهذا الابتكار هو أنه سيشجع ويمكِّن من تشغيل عددٍ أكبر من الطائرات بدون طيار، وهو تطورٌ محل ترحيبٍ (على سبيل المثال، تسيِّر الصين رحلات طائرات بدون طيار للمساعدة في مكافحة التلوث) ومتوقعٌ على حدٍ سواء، حيث يبدو أن توسع رحلات الطائرات بدون طيار الخطيرة حول المناطق المأهولة بالسُّكان يتطور قبل تطور الأنظمة.

في حين أن أنظمةِ التحكُّم الذاتي، الذكاء الاصطناعي، والروبوتات تُعد تقنياتٍ قديمةً منذ عقود، إلا أنها ستستمر بالتوسُّع في وظائفها، وستدخل عصوراً جديدة من التخصص المتواصل. كما ستتمكن تقنية الذكاء الاصطناعي الناشئة والأكثر بداهة من تغيير برامج الخطاب والمحادثة بدقةٍ غير مسبوقةٍ، مما سيساعد ملايين البشر وسيعيد تعريف طريقتنا في إصدار الأوامر والتفاعل مع أجهزة الكمبيوتر.

الروبوتات بذكاء البشر
سيمتلك الجيل الجديد من الروبوتات مزيداً من الاستقلال الذاتي وقدرةً على التفاعل بدون البرمجة مسبقة أكثر فأكثر. مما يُعقِّد كلَّ المناقشات الحالية حول الروبوتات: حيث يجب أن تكون الثَّقة والاعتماد على الروبوت أكبر، مما يقربنا من النقطة التي سنكون فيها على قدم المساواة مع الروبوتات. وتوضح تقنية الرقائق المشكلة عصبياً ذلك بشكلٍ أكثر. ويُعد هذا من بين أكثر التطورات الثورية في الذكاء الاصطناعي، وخطوةً ضخمةً في طريق القدرة الحاسوبية. حيث ستعمل الحواسب المستوحاة من الأعصاب بطريقةٍ مماثلةٍ لأسلوب اتِّصال الخلايا العصبية بالمشابك العصبية عبر محاكاة تعقيدات الدماغ البشري، والتي من المحتمل أن تكون قادرةً على التَّعلُّم أو تطور الذاكرة. وهذا يلمح مثلاً أن تجهيز طائرة بدون طيار بالرقائق المشكلة عصبياً ستكون أفضل في المراقبة، التَّذكر، أو التَّعرف على عناصر جديدةٍ في البيئة.

إلا أن الأعلام الحمراء الأخلاقية تُنشأ: يمكن لبناء الرقائق المشكلة عصبياً أن يصنع آلةً بمثل ذكاءِ البشر، وهم أكثر نوعٍ تفوقاً وذكاءً في الكون. فهذه التقنيات تعد إيضاحاً للتفوق البشري بعد الكومبيوتر. والتي يغلب الظن أنها قد تصبح مدمرةً للنوع البشري، حتى أنه يمكنها أن تُبقي الإنسانية كحيواناتٍ أليفةٍ كما أوضح مارفن مينسكي.

يشمل الاهتمام بالأجهزة الذكية أيضاً السعي نحو طرق التصنيع بالإضافة، وهو دمج الأجهزة الذكيَّة في الصناعات المختلفة بشكلٍ متزايدٍ. وبإمكان هذه المواد أن تتكيف، تغير من خصائصها، تتفاعل أو تستجيب لبيئاتها. ومع الطباعة رباعية الأبعاد التي تؤخذ في الاعتبار التحول الذي يحدث بمرور الوقت، ستتكيف بعض المواد وستُرمَّم نفسها بلا صيانةٍ، أو قد يمكن أن تكون مبرمجة مسبقاً لتتفكك بمفردها. وسيثير ذلك تساؤلاتٍ جديدةٍ حول المعايير، التتبع، وحقوقِ الطبع والنشر.

ستظهر المزيد من التشويشات الجذرية عند انتقال التقنية إلى العالم العضوي، مما يجعل من الممكن أن تجتمع المواد الحيوية والتي تتطور وتنمو من تلقاء نفسها، تصميم روبوتٍ مكافحٍ للسرطان والذي باستطاعته اطلاق الأجسام المضادة عند اتصاله بالخلايا السرطانية فقط، إلخ. لقد اقتربت لحظة زر الطباعة لعلم الأحياء. وفي الواقع، من الممكن أن يعني هذا أيضاً أن الصيدلية الذكية ستسمح لنا في المستقبل غير البعيد بالحصول على إمدادٍ ثابتٍ من الأدوية المضادة للاكتئاب أو محسنات الأعصاب في كلّ مرةٍ ينخفضُ لدينا فيها مستوى الدوبامين. ويجب التفكير بالعواقب الأخلاقية لمثل هذه التطورات. فإن السيطرة على عواطفنا بالتفصيل من قبل الآلات الذكية سيمهد الطريق لأشكالٍ خطيرةٍ من الاعتمادات وإدراكاتٍ جديدةٍ لإنسانيتنا وللعواطف التي تعرِّفُنا.

يرتكز العلاج القائم على الجينوم على التوفر الأوسع والأرخص لبيانات الجينوم، وسيوفر طرقاً جديدةً لتخصيص البروتوكول العلاجي وتحسين سيطرتنا على الأمراض وعلى العلاج الطبي. لقد تغيَّرت سرعة، دقة، وتكلفة قراءة الجينوم بشكلٍ جذريٍ في سنواتٍ قليلةٍ. حيث كانت هذه العملية قبل عقدٍ جهداً بمليار دولارٍ، بينما تدنَّى السعر اليوم بشكلٍ حادٍ إلى حوالي 8000 دولار. فعلى سبيل المثال، سيسمحُ هذا في علاج السرطان بالانتقال من العلاج الكيميائي واسع الطَّيف إلى تشخيصٍ أكثر فرديةً واستهدافٍ للموروثات المعطوبة بالتحديد. برغم أننا بدأنا بداية حقيقة للحصول على أدوات أكثر دقة لمكافحة الأمراض التي تهدد الحياة بالخطر، تنشأ مجوعة أخرى من القضايا.

سيظهر نطاقٌ آخر من المشاكل أثناء بدئنا حقيقةً باكتساب أدواتٍ دقيقةٍ لمحاربة الأمراض المهددة للحياة. حيث ستظل عدم المساواة العالمية المنتشرة تمنع ملايين الناس من التمتع بفوائد مثل هذه العلاجات، حتى في سياق انخفاضِ تكاليف تحديد تسلسل الجينوم. وعلاوةً على ذلك، ستنشأ مجموعةٌ من المخاطر الأمنية والخصوصية المرتبطة بتخزين بيانات الجينوم، وستتطلَّب آلياتٍ وقائيةٍ. خاصةً وأن قواعد البيانات تتم مشاركتها لأسبابٍ أمنيةٍ في الكثير من الأحيانِ (على سبيل المثال: بين قوات الشرطة الدولية)، مما يزيد من احتمالية القرصنة.

حتماً، ستعيد التقنيات الناشئة تعريف مفاهيمنا للأحياء، العالم المادي، والتصنيع. وستتوسع الآثار بصورةٍ أبعد إلى الجغرافيا السياسية، والتوازن العالمي للقوى. ومن المتوقع أن تشق مركبات خلايا الوقود طريقها أخيراً للسوق وتحد من الانبعاثات التي تساهم في تغير المناخ ومن الاعتماد على النفط. وسيزيد ذلك على المدى الطويل من هشاشة الاقتصادات المعتمِدة على النفط وسيعيد تقويم العلاقات الجغرافية السياسية. كما ستغير بوليمرات الثرموستات القابلة لإعادة التدوير والتي تم اكتشفها عن طريق الصدفة من عمليات التجميع والتصنيع بشكلٍ مثيرٍ، مما يؤدي إلى معاييرٍ جديدةٍ في الصناعات.

كما أن قدوم تقنية الانتاج الموزّع على الصعيد العالمي ملزمةٌ بأن تؤدي إلى إعادة تقييم معنى سلاسل قيمة القيمة والبنية التحتية: فعوضاً عن شحن أجزاء منتجٍ معطى، ستتاجر بعض الشركات بالمعلومات ببساطةٍ، تاركةً إنهاء التصنيع للمستهلك. وستتيح عدة تقنياتٍ أخرى نقلةً نوعيةً لمستقبلٍ لاماديٍ، مع احتمالات لانهائيةٍ للتعديل، كالطباعة الثلاثية الأبعاد، المعلوماتية، والروبوتات.

التغيرات المقبلة
قائمة المنتدى لأعلى 10 تقنياتٍ ناشئة لعام 2015مـ تنبهنا إلى تغيراتٍ مهمةٍ في الأفق لجميع القطاعات. وكما هو الحال دائماً، يجبُ علينا الترحيب بالابتكار وبالفوائد التي يجلبها لنا. ولكن يجب علينا أيضاً أن نَبقى ملتزمينَ بالتنمية المستدامة، أخذين في الاعتبار قضايا عدم المساواة، كرامة الإنسانية، والشمولية. وأخيراً، تنبهنا أيضاً التقنيات الناشئة الأعلى لهذه السنة إلى أهمية الالتزام السياسي. فخذ الانتقال إلى مركبات خلايا الوقود على سبيل المثال، حيث سيتطلب ذلك تكيفاتٍ كبرى وتحولاتٍ في البنية التحتية.

في الواقع، يُقدَّرُ بأنه لو أنفقت الحكومة الأمريكية نفس تكاليف إنزال شخص على القمر (100 مليارٍ بدولارات اليوم)، سيكون التحول للسيارات التي تعمل بالهيدروجين ولمحطات الغاز التي تضخ الهيدروجين أسهل بشكلٍ كبيرٍ. فغالباً ما تكون التقنية بحد ذاتها متاحةٌ واقعاً. ولكنها تستلزم ممارسةً ضخمةً للإرادة السياسية لتُحدِث التغيير.

قد ترتقي بعض التقنيات بشكلٍ مستقلٍ عن الدعم السياسي. ولكنَّ الحوكمة الرَّشيدة، فحص مخاطرِ منتجات الاستخدام الثنائي، والاعتبارات الأخلاقية يجب أن تظل مركز التوجِّيه في جميع الأوقات. في النهاية، كيفية مقاربتنا أنظمة للتقنية الناشئة ستكون ذات آثارٍ واسعةٍ حتماً، وليس على النواحي الأمنية والأخلاقية فقط، بل أيضاً على تعريفنا لكرامة الإنسان والمساواة بين الأفراد.
المصدر (weforum)

*ديماغوجيا (demagoguery) : وهي استراتيجية لإقناع الآخرين بالاستناد إلى مخاوفهم وأفكارهم المسبقة
تقنية تحرير الجينوم (genome-editing technologies)
الذكاء الاصطناعي (artificial intelligence)
الجينوم الرقمي (digital genome)
الكائنات المعدلة وراثياً (genetically modified organism)
الروبوتات (robotics)
تقنية الرقائق المشكلة عصبياً  (Neuromorphic chip technology)
تقنية الانتاج الموزَّع (distributed manufacturing )
البوليمرات الثيرموستاتية القابلة لإعادة التدوير (Recyclable thermostat polymers)

السعودي العلمي

Comments are closed.