لماذا يزرع العلماء عضيّاتٍ دماغيّةٍ بشريةٍ في أدمغة فئران؟

كتابة: آشلي ييجر.
ترجمة: محمد بكري.
مراجعة: نهلة السقاف.

أفادَ عددٌ من الباحثين في دورية نايتشر للتقنية الحيوية أنّ أدمغة الفئرانِ تشكّلُ مكاناً مناسباً لنموّ العضيّات الدماغية الإنسانية والمعروفة أيضاً بالأدمغة المصغرة، وهي تكتلاتٍ من الخلايا الدماغية المُنماة من الخلايا الجذعيّة، ويستخدمها الباحثون حالياً لدراسة الأسس العصبيّة لمرض التوحّد وغيره من الاضطرابات العصبية. لكنّ هذه العضيّاتِ تنمو في المزارع الخلويّة لبضعةِ أشهرٍ فقط قبل أن تموت، مما يحدّ من فائدة استخدامها كنماذج لأدمغةٍ حقيقية، وتُشير الدراسة الجديدة أن زراعةُ هذهِ التكتلات الثلاثية الأبعاد من الأنسجة الدماغية البشرية في أدمغة الفئرانِ يسمحُ لهذهِ العضيّات بالنموّ، وتكوينِ شبكاتٍ من الشعيرات الدمويّةِ الداعمة للحياة واتصالاتٍ عصبيّةِ جديدة. إنّ هذا العمل يُمثّل خطوةً إلى الأمام نحو استخدامِ هذه العضياتِ الدماغية لدراسةِ تعقيدات تطوّر الدماغِ البشري وأمراضِهِ، والتي لا يمكنُ دراستها باستخدام التقنيات الحالية، كما أن زراعةُ العضيّاتِ الدماغيّةُ يمكن أيضاً أن يوفّرَ خياراً لعلاج الإصاباتِ والسكتاتِ الدماغيّة.

قال الباحث في الأحياء الجزيئيّةِ في معهد التقنية الحيوية الجزيئية في فيينا والذي لم يكن مشاركاً في الدراسة وهو الدكتور يورغن نوبليتش: “بالرغمَ من كون العضيات الدماغيّة تطوراً هائلاً في علم الأعصابِ البشري، إلا أنها ليست مثاليةً، إذ لا تحتوي على شعيراتٍ دمويةٍ، خلايا مناعيّةٍ، أو اتصالاتٍ وظيفيةٍ ببقية الجهازِ العصبيّ، والهدفُ من تجاربِ الزراعة هو إظهار الإمكانية الفعلية للاندماجَ مع بقية الأنسجة”. وقال المؤلف المشارك للدراسة وعالِم الأعصاب في معهد سالك للدراسات الأحيائية في كاليفورنيا وهو الدكتور فريد روستي غيج في حديثه لمجلة ذا ساينتست أن عدداً كبيراً من الخلايا الموجودةِ في مركزِ مجموعة العضيّات ثلاثية الأبعادِ يموت بسببِ عدمِ حصولها على الدّمِ أو المغذّياتِ الأساسيّةِ التي تحتاجها للنجاة، ولهذا بدأَ مع عددٍ من زملائِهِ بالتفكير في الحالةِ الصحّيةِ للعضيّات منذ عدة أعوامٍ عندما بدأ في العملِ عليها.

تذكّرَ غيج أثناء عمله أبحاثاً سابقةً أجراها في السويد مع الباحثَيْن أولف ستينيفي من جامعة جوتنبرغ وأنديرس بيوركلُند من جامعة لوند في السبعينات والثمانينات من القرن الماضي، حيث زرعوا أنسجةٍ دماغيةٍ للفئران في تجاويف حُفرت في أدمغة فئرانٍ أخرى، وذلك لدراسة ما إذا كانت هذه الأنسجة ستنمو فكانت التجربة ناجحةً، وتوقّعَ غيج في ذلك الوقت أنّ عضيّاتٍ دماغيّةً بشرية ستنمو في تجاويفَ مشابهةٍ صغيرةٍ محفورةٍ في أدمغة فئران، ولقد كان محقاً.

استخدمَ فريقُ غيج خلايا جذعيّةً بشريّةً متعددة القدرات لتتطوّر إلى عضيّاتٍ دماغيّة، وتمّ زراعتُها وتركها تنمو لحوالي 40 إلى 50 يوماً، ثم زرعت هذه العضيّات في تجاويفٍ حفرها في منطقة ما خلف الجسم الثفنيّ في أدمغةِ الفئران، وهي منطقة مسؤولةٌ عن الحركةِ والتعلم المكاني، كما امتلكت الفئران أنظمةً مناعيّةً “مؤنسنة” كما شرح غيج، وذلك عبر برمجة خلايا الفئران المناعيّةَ وراثياً بحيثُ لا تُهاجم الأنسجة البشرية. وفي اليوم الخامسِ بعدَ الزراعة، أمكن ملاحظة نموّ بعض الشعيراتِ الدموية في العضيات باستخدام صبغةٍ مضيئةٍ، بينما في اليوم الرابع عشر نمت الشعيرات الدموية لتُشكّلَ شبكةً معقدةً من الأوعية الدمويّة في عمقِ النسيج الدماغيّ البشريّ، كما أظهرت مستوياتُ بعض الواسمات في العضيّات مثل (نيو-إن) و (بي أس دي 95) أن الخلايا العصبية الأولية في العضيات قد نمت وتطوّرَت إلى خلايا عصبيّةٍ بالغةٍ وأنشأت مشابك عصبيةٍ لترتبط ببعضها البعض، واستطاع الباحثون في اليوم التسعين بعد الزراعة تتبّعَ عصبوناتٍ ومحاورَ عصبيّةً تمتدّ من العضيات إلى عمق أدمغة الفئران.

أظهر تصويرُ الكالسيوم أيضاً أنّ الخلايا العصبيّة في العضيّات داخل أدمغة الفئران تطلق إشاراتٍ عصبيّةً متزامنةً، مقارنةً بالعضيّاتِ المزروعةِ بشكل منفصلٍ في مزارع خارج الدماغ والتي كانت تطلقُ إشاراتٍ ضعيفةٍ غير متزامنةٍ وعشوائيةٍ، مما يدلّ على أن هناك شبكة فعّالةً عصبيّةً في طور النموّ، بالإضافة إلى ذلك أثبتت تجارب الوراثيّاتِ البصريّةِ أن الخلايا العصبية في العضيّات اندمجت مع أدمغة الفئران بشبكاتٍ ودوائرَ عصبية.

يقولُ عالم الجيناتِ الجزيئيّةِ في معهد هوبريخت في مدينة أوتريخت في هولندا وهو هانس كليفيرس: “‘ن التحدّي الأخير لوظيفية العضيّاتِ هو إظهار إمكانيّة اندماجها مع المُستَقبِلِ”، ولم يكن كليفيرس مشتركاً في الدراسة، إلا أنه وإلى جانب علماء آخرين درسوا وظيفية عضيَاتٍ أبسط كأنسجة الظهارة المعوية، الكبد، والبنكرياس، ويقولُ بأن النسيجَ الدماغيّ المُصغر “هو أصعبُ وأعقدُ الأنسجة التي حُولت إلى عضياتٍ”، وأن الدكتور غيج وزملاءهُ “قدموا دليلاً واضحاً على أن الشعيرات الدموية والشبكات الدماغية يمكنُ أن تنمو بين العضيّ الدماغيّ المزروعِ ودماغ الفأر”، ويرى بأنّ النتيجة تبيّنُ أكثرَ الظواهرِ إبداعاً في العضيّات وهي النّزعةَ اللانهائية للوصول إلى درجاتٍ عاليةٍ من التنظيمِ الذاتي، ومثلُ هذهِ التنظيمات هي ما يدفع الباحثين لدراسة العضيّات ولا سيما العضيّات الدماغية في بيئةٍ حيةٍ.

يقولُ الجرّاح العصبيّ من جامعة بنسلفانيا والذي لم يكن ضمن فريقِ الدراسةِ أيضاً وهو إسحاق تشين: “لا تقتصر وظيفة الدماغ على الربط بين الخلايا العصبيّة المنفردة، بل أيضاً على النشاطِ المشترك لمجموعات الخلايا العصبية التي تتنظم في بُنياتٍ معيّنةٍ”، ويُضيف: “لا تتوفر مثل هذه التنظيمات في المزارع الخلوية، ولذلك هناك حدودٌ متأصلةٌ لنوع التجارب التي يمكن عملها والنتائجِ التي يمكن الوصول إليها”. وهو كذلك يرى أن الدراسات العصبية على نماذج العضيات تسمح بالتحقيق في كيفية نشوء نشاط الدماغ من مجموعاتٍ من الأعصاب وكيفية تواصلها مع بعضها، لكنّه يقول بأن هناك فروقاً جوهريّةً بين الأنواع المختلفة من الكائنات الحيّة، مما يحدّ من قابلية تعميم النتائج على الدماغ البشري.

يضيف الدكتور تشين أنّ زراعة العضيات الدماغية تسمح للباحثين بدراسة المزيد عن تطور الدماغ البشري بمرور الوقت، فالعضيّاتُ المأخوذة من أشخاصٍ مصابين بأمراضٍ عصبيةٍ معينةٍ يمكن زراعتها لتكوينِ نماذج أدق عن هذه الأمراض، كما أن وجود طريقةٍ عمليةٍ وفعالةٍ للزراعة قد تمكن العلماء من دراسة فوائد وحدود استخدام العضيات الدماغية كحلولٍ علاجيةٍ لاستبدال الأنسجة الدماغية المفقودة أو المتضررة بسبب السكتات الدماغية، الحوادث، أو حالاتٍ عصبيةٍ أخرى.

المصدر (The Scientists)

المصطلحات:
عضيّات دماغيّةٌ بشرية human brain organoids
المزارع الخلويّة cell cultures
يورغن نوبليتش Jürgen Knoblich
معهد التقنية الحيوية الجزيئية Institute of Molecular Biotechnology
فريد روستي غيج  Fred “Rusty” Gage
معهد سالك للدراسات الأحيائية Salk Institute for Biological Studies
أولف ستينيفي Ulf Stenevi
جامعة جوتنبرغ University of Gothenburg
أنديرس بيوركلُند Anders Björklund
جامعة لوند Lund University
خلايا جذعيّةً بشريّةً متعددة القدرات human pluripotent stem cells
منطقة خلف الشريط الثفنيّ  retrosplenial cortex
هانس كليفيرس Hans Clevers
معهد هوبريخت Hubrecht Institute
إسحاق تشين  Isaac Chen
جامعة بنسلفينيا  University of Pennsylvania

السعودي العلمي

Comments are closed.