مفارقة فيرمي: ليست مفارقةً وليست لفيرمي

ترجمة: عبدالحميد حسين شكري.




تبرز فكرتان رئيسيتان عادةً عندما نتحدث عن ’البحث عن الحياة الذكية خارج الأرض’*. الأولى هي معادلة دريك، والتي تُقدر عدد الحضارات في مجرتنا التي يمكننا رصد إشاراتها، ويحتمل أن تكون بالآلاف وفقاً لتقديراتٍ معقولةٍ. والأخرى هي مفارقة فيرمي، والتي تزعم أننا ينبغي أن نرى المخلوقات الفضائية الذكية هنا إن كانت موجودةً في أيّ مكان، لأنهم ومن دون شك سيستعمرون المجرة بالسفر عبر النجوم، وبما أننا لا نرى إشاراتٍ واضحةً للمخلوقات الفضائية، فإن البحث عن إشاراتهم يعد مضيعة للوقت.

إن معادلة دريك أصليةٌ تماماً: وقد تم وضعها عن طريق فرانك دريك وهو فلكي ورائد في البحث عن الحياة الذكية خارج الأرض. في المقابل، مفارقة فيرمي تعد أسطورة. وقد تمت تسميتها تيمناً بالفيزيائي إرنيكو فيرمي، رغم أن فيرمي لم يدعي ذلك أبداً.

سأقوم بشرح السبب وراء خطأ ما يدعى بمفارقة فيرمي، بناءً على بحثي العميق في هذا الموضوع، لأن هذا الخطأ أثبط البحث عن الحياة خارج الأرض والذي أعتقد أنه جديرٌ بالاهتمام. حيث استشهد بالمفارقة عضو مجلس الشيوخ ويليام بروكسماير كسببٍ لقتل برنامج سيتي التابع لناسا في عام 1981مـ، وقد أعيد البدء بالبرنامج بعد إلحاحٍ من كارل ساغان، ولكن في عام 1993مـ تم قتله نهائياً على يد عضو مجلس الشيوخ ريتشارد براين. ومنذ ذلك الحين، لم يتم دعم أيّ بحثٍ في الولايات المتحدة بواسطة الحكومة، رغم اكتشاف آلآف الكواكب الجديدة التي تسير في مداراتٍ حول نجومٍ غير شمسنا.

لم ينشر الحائز على جائزة نوبل والذي قام ببناء أول مفاعلٍ نوويٍ إرنيكو فيرمي أيّ كلمةٍ عن موضوع الحياة خارج الأرض. إلا أننا نعلم بعضاً من آرائه لآن الفيزيائي إريك جونز جمع تقاريراً مكتوبةً من ثلاثة أشخاصٍ ما زالوا على قيد الحياة والذين حضروا حفلة غداءٍ في لوس ألموس عام 1950مـ حيث تعود جذور مفارقة فيرمي، وهم: إيميل كونوبينيسكو، إدوارد تيلر وهيربرت يورك (وفاة فيرمي كانت في عام 1954مـ).

وفقاً لشهود العيان هؤلاء، كانوا يتحدثون عن كرتونٍ في مجلة النيويوركر يظهر مخلوقاتٍ فضائيةٍ مبتهجةٍ وهم يخرجون من طبقٍ طائر حاملين علب القمامة التي سرقوها من شوارع مدينة نيويورك، ثم سأل فيرمي “أين الجميع؟”. حيث أدرك الكل أنه كان يشير إلى حقيقة أننا لم نر أيّ سفن فضاءٍ للمخلوقات الفضائية، وتحول الحديث عن إمكانية السفر عبر النجوم. يبدو أن لدى يورك الذاكرة الأفضل، إذ يذكر فيرمي:

“… لقد ذهب (فيرمي) إلى استنتاجٍ أن السبب وراء عدم تمكنهم من زيارتنا هو أن السفر عبر النجوم مستحيلٌ، أو أنه حكم عليه دوماً بكونه لا يستحق العناء لو كان ممكناً، أو أن الحضارة التقنية لا تستمر طويلاً بما فيه الكفاية لكي يحدث”.

يبدو أن كلا من يورك وتيلر ظنوا أن فيرمي كان يتساءل عن إمكانية السفر عبر النجوم، ولم يفكر أحدٌ أنه كان يتساءل عن إحتمالية وجود حضاراتٍ خارج الأرض. وبهذا قامت مفارقة فيرمي التي تشكك في وجود حياةٍ خارج الأرض بتشويه آراء فيرمي. ولم يكن تشكيك فيرمي حول السفر عبر النجوم مفاجأةً، ففي عام 1950مـ، لم تكن الصواريخ قادرةً على الوصول للمدار، والذي يعد أقل بقليل من الوصول لكوكبٍ آخر أو نجمٍ.

إن لم يكن فيرمي هو مصدر هذه الفكرة المتشائمة، إذا من أين ظهرت؟

إن أول ظهورٍ لفكرة “… بما أنهم ليسوا هنا، فهذا يعني أنه ليس لهم وجود”، كانت في عام 1975مـ، عندما زعم الفلكي مايكل هارت أنه إذا كانت المخلوقات الفضائية موجودةً فإنهم ومن دون شك سيستعمرون مجرة درب التبانة. فإن كان لهم وجودٌ في مكانٍ ما، فإنهم موجودين هنا. وبما أنهم ليسوا هنا، توصل هارت إلى أن البشر على الأرجح هم الحياة الذكية الوحيدة في مجرتنا، لذا فالبحث عن حياة ذكية في مكان آخر هو “على الأرجح مضيعة للوقت والمال”. إلا أن حجته عُورضت لعدة أسباب، فقد يكون السفر عبر النجوم غير محتملٍ، أو ربما لم يشأ أحد أن يستعمر المجرة، أو ربما زارنا أحدٌ في عهدٍ بعيدٍ ودُفن الدليل مع الديناصورات، لكن الفكرة أصبحت راسخةً في التفكير عن حضارات المخلوقات الفضائية.

قام الفيزيائي فرانك تيبلر في عام 1980مـ بشرح حجة هارت بطرح سؤالٍ واحدٍ وواضحٍ: من أين قد يحصل أيّ شخص على المصارد اللازمة لاستعمار مليارات النجوم؟ حيث اقترح “وجود بنّاءٍ كونيٍ يقوم بنسخ ذاته وذو ذكاءٍ يضاهي مستوى البشر”. فقط أرسل أحد هؤلاء الرضع خارجاً إلى نجمٍ مجاورٍ، واطلب منهم أن تقوم بنسخ نفسها باستخدام المواد المحلية، ثم أرسل هذه النسخ إلى النجوم الأخرى حتى تمتلئ المجرة بهم. وقد احتج تيبلر على أن غياب أدواتٍ كهذه على الأرض يثبت أننا الحياة الذكية الوحيدة في الكون كله، وليست فقط في مجرتنا، وهو أمرٌ يبدو كقفزةٍ طويلةٍ عن مجرد غياب المخلوقات الفضائية في كوكبنا.

يعود الفضل إلى كل من هارت وتيبلر للفكرة التي تقع في قلب مفارقة فيرمي. إلا أن فكرتهم خُلطت مع سؤال فيرمي الأصلي على مر السنين. حيث بدأ الخلط بوضوحٍ في عام 1977مـ عندما استعمل الفيزيائي ديفيد ستيفينسون عبارة ‘مفارقة فيرمي’ في بحثٍ يستشهد بفكرة هارت كأحد الأجوبة الممكنة لسؤال فيرمي. إذ من الممكن أن نطلق على مفارقة فيرمي وبشكلٍ أدق ‘حجة هارت وتيبلر ضد وجود كائناتٍ فضائيةٍ تقنيةٍ’، والذي قد لا يبدو ذو سلطةٍ مثل الاسم القديم، ولكنه عادلٌ للجميع.

أما بالنسبة للمفارقة فهي غير موجودة، حتى في حجج هارت وتيبلر. فلا يوجد تناقضٌ منطقيٌ بين عبارة “قد تتواجد المخلوقات الفضائية في مكانٍ آخر” وبين عبارة “المخلوقات الفضائية ليست هنا”، فلا أحد يعلم إن كان السفر عبر النجوم ممكناً في المقام الأول.




إن حجج هارت وتيبلر والتي تخفّت تحت سلطة اسم فيرمي جعلت من بعض الناس متشائمين حول فرص نجاح البحث عن الحياة الذكية خارج الأرض. ولكن فكرة ألا ينبغي علينا البحث عن حياةٍ ذكيةٍ في مكانٍ آخر لأننا وبكل بساطةٍ لا نراهم هنا تعد سخيفةً. وهناك علامات على أن التشاؤم في حالة انهيارٍ خاصةً عندما قام يوري ميلنر بدعم ماليٍ خاصٍ لمشروع الإنصات غير المسبوق، والذي تعهد بالتبرع بـ100 مليون دولارٍ كدعمٍ ماليٍ على مدى عشر سنوات. ولكن البحث عن إشاراتٍ ذات تردداتٍ مجهولةٍ في ملايين النجوم قد يستهلك مصادر أكثر. فالباحثون عادةً ما يرون نقطةً في السماء ليست أكبر من القمر في أيّ لحظة، وهي جزءٌ ضئيلٌ من السماء فقط. ولو أردنا العثور على شيءٍ مثيرٍ للاهتمام في عصرنا فقد نحتاج إلى أن ننظر بجديةٍ أكبر.

المصدر: (scientificamerican)

مفارقة فيرمي (Fermi Paradox)
البحث عن الحياة الذكية خارج الأرض أو سيتي ((SETI)) (Search for Extraterrestrial Intelligence): (وهو مشروعٌ فلكيٌ يهتم بالبحث عن ذكاء خارج الأرض)
معادلة دريك (Drake Equation)
فرانك دريك (Frank Drake)
إرنيكو فيرمي (Enrico Fermi)
ويليام بروكسماير (William Proxmire)
ناسا (NASA)
كارل ساغان (Carl Sagan)
ريتشارد براين (Richard Bryan)
إريك جونز (Eric Jones)
لوس أنجلوس (Los Alamos)
إيميل كونوبينيسكو (Emil Konopinski)
إدوارد تيلر (Edward Teller)
هيربرت يورك (Herbert York)
النيويوركر (The New Yorker)
مدينة نيويورك (New York City)
مايكل هارت (Michael Hart)
فرانك تيبلر (Frank Tipler)
ديفيد ستيفينسون (David G. Stephenson)
يوري ميلنر (Yuri Milner)
الإنصات غير المسبوق (Breakthrough Listen project)

Comments are closed.