تبديل الأجساد افتراضياً يقلل العنصرية

كتابة: مانوس ساكيري.
ترجمة: بلقيس الصالح.
مراجعة: سلمى الحبشي. 

خضع الكاتب الأمريكي الأبيض البشرة جون هورد قريفن لعلاجاتٍ طبيةٍ في عام ١٩٥٩مـ، وذلك بهدف تغيير لون بشرته والظهور بمظهر رجلٍ أسود، وسافر قريفن بعد ذلك عبر جنوب الولايات المتحدة الذي يمنع فيه اختلاط الأعراق ليعيش التمييز العنصري الذي يعانيه ملايين الأمريكيين السود يومياً، فتفتّقت هذه التجربة الفريدة عن رؤىً لا تُقدر بثمن؛ إذ كيف تسبب تغيّر لون بشرة قريفن في تصرفاتٍ عنصريةٍ وسلبيةٍ من رفاقه الأمريكيين.

لكن ماذا عن التغييرات التي عاشها قريفن نفسه؟ ما معنى أن تصبح شخصاً آخراً؟ كيف تؤثر تجربةٌ كهذه في نفس الإنسان؟ وكيف لها أن تؤثر على الصور النمطية، المعتقدات، والسلوك العرقي؟ كان هذا هو السؤال الرئيسي الذي طرحته وزملائي عبر سلسلةٍ من التجارب النفسية التي تبحث في الرابط بين أجسادنا وإدراك من نكون.

هل هذا هو جسدي؟
عندما أسأل طلابي أو أصدقائي عما إذا كان ممكناً خداعهم وإقناعهم بأن يداً مزيفةً هي جزءٌ من أجسادهم، تكون ردة فعلهم الأولى هي الإنكار وتتبعها “لا” حاسمةُ، غير أننا تعلمنا في علم النفس التجريبي أنه من السهل خداع العقل وجعله يعتقد بأن يداً مزيفةً هي جزءٌ منك بالفعل.

يعتمد وهْم اليد المطاطية كما يُعرف حالياً على آليةٍ بسيطةٍ من التكامل الحسّي، ويُظهر أنّ شعورنا بأجسادنا أمرٌ قابلٌ للتطويع، حيث سأطلب منك الجلوس أمام طاولةٍ وإخفاء يدك اليمنى عن الرؤية بوضعها خلف حاجزٍ كمشاركٍ في تجربتي، وسأقوم حينها بوضع يدٍ مطاطيةٍ صناعيةٍ أمامك وأطلب منك النظر إليها. وتكمن الخدعة في قيامي بمداعبة يدك بفرشة طلاءٍ بينما أداعب اليد الصناعية في نفس الوقت والمكان، وبهذه الطريقة ستشعر باللمسات في يدك الحقيقية التي لا تراها وترى اللمسات على اليد المزيفة.

يخلق هذا الموقف نوعاً من التناقض لدى الدماغ، حيث يشعر بشيءٍ في موقعٍ ما بينما يرى شيئاً مماثلاً (اللمسات على اليد المزيفة) في موقعٍ مختلف. وحيث أنّ الأدمغة لا تحب التناقضات، سيحاول دماغك حلّ ذلك مستخدماً المعلومات الحسية المتوفرة، وسيخلق دماغك وهماً بأن الإحساس الذي تشعر به في يدك سببه اللمسات التي تراها على اليد المزيفة لكوننا نعتمد عادةً على تصديق ما نراه، فإن كان هذا مصدر إحساسك فلابدّ إذاً أن اليد المزيفة جزءٌ منك.

الوهم قويٌ وبعض آثاره ملفتةً للنظر، فقد لوحظ على سبيل المثال أن درجة حرارة يدك ستنخفض بمجرد أن تعيش تجربة الوهم، مما يعني أن الدماغ خفَّض من مقدار التحكم في توازن العمليات الحيوية في يدك بما أن هناك يداً أخرى يجدر الاعتناء بها، ومما يثير الدهشة أننا وجدنا أن الناس يعيشون الوهم حتى مع اختلاف لون الجلد بين اليد الحقيقية والمزيفة، ولقد ألهمتنا هذه النتائج الصادمة بعض الأسئلة الهامة حول كيفية ارتباطنا اجتماعياً بالآخرين.

العقل والجسد
يتوجه تركيزنا نحو الآخرين بشكلٍ تلقائيٍ أثناء سيرنا في الطريق وبالتحديدِ نحو وجوههم ومظاهرهم، وهذه من المحفزات الاجتماعية الصامتة، وبإمكاننا علاوةً على ذلك الحكم على الآخرين في جزءٍ من الثانية سواءً أحببناهم أم لا، إن كانوا جديرين بالثقة أم لا، إن كانوا يشبهوننا أم لا، أو حتى إن كانوا ينتمون إلى مجموعتنا أم لا.

عادةً ما تؤثر أحكامٌ كهذه على سلوكنا تجاه الآخرين وتجعلنا منحازين إلى حدٍ ما، فغالباً ما نشعر بالثقة تجاه من نلاحظ أنهم يشبهوننا في الشكل مثلاً، وهذا بالضبط ما يحصل أيضاً مع من يشابهوننا في بعض سماتنا الشخصية، ويبدو أن عقولنا تحسب على الدوام مقدار ما تلاحظه من تشابهٍ جسديٍّ أو نفسيٍّ بيننا وبين الآخرين لتحدد معايير سلوكنا تجاههم.

لكن ماذا لو كان بإمكانك أن تحصل للحظةٍ على جسمٍ آخرٍ من عرقٍ، جنسٍ، أو عمرٍ خلافاً لما أنت عليه؟ هل سيجعلك ذلك تنظر للعرق الآخر، الجنس، أو العمر بنظرةٍ أكثر مساواةٍ لك؟ هل سيغير من نظرتك لنفسك أو من الصورة النمطية للمجموعات الاجتماعية الأخرى؟ استطعنا من خلال الجمع بين عدة أوهامٍ تغيّر من طريقة تصوّر عقولنا لأجسادنا اختبار ما إذا كان التغير فيك يغير من تحيزك العرقي، ومن ضمن الأوهام وهمُ اليد المطاطية.

 

لم نشأ أن نسأل المشاركين صراحةً إذا كانوا عنصريين عرقياً، لأنه كان بإمكاننا توقّع إجاباتهم بسهولةٍ، فقمنا بدلاً من ذلك باستخدام اختبارٍ نفسيٍّ اجتماعيٍّ معروفٍ وهو اختبار الترابط الضمني، والذي صُمم بهدف إيجاد قوة الربط بين المجموعات المختلفة كالناس السود أو البيض وبين المفاهيم المستحسنة أو المستهجنة.

اختبار الانحياز
تظهر كلمة “أسود” في الزاوية العلوية اليسرى على الشاشة في اختبار الترابط الضمني، بينما تظهر كلمة ” أبيض” في الزاوية العلوية اليمنى، ويظهر وجهٌ إما “أبيضٌ” أو “أسودٌ” في وسط الشاشة، وعلى المشاركين فرز الوجوه بالضغط على المفتاح المناسب إما يميناً أو يساراً، ويمكن استخدام سماتٍ إيجابيةٍ أو سلبيةٍ أخرى بالإضافة إلى الأوجه.

بوسعنا قياس مدى سرعة المشاركين في فرز الوجوه السوداء عندما تكون مقرونةً بأفكارٍ سيئةٍ أو جيدة، فإذا كان لدى الناس فكرةً سلبيةً تجاه السود سيتولد لديهم ربطٌ قويٌّ بين الأفكار السلبية والوجوه السوداء، وسيكون المشارك أسرع في فرز الوجوه السوداء عند ربطها بأفكارٍ سلبيةٍ نتيجةً لذلك، وأبطأ في المقابل عندما تُربط بأفكارٍ إيجابية، ويمكننا بذلك قياس أداء الناس في اختبار الترابط الضمني وتقدير مدى الانحياز السلبي أو الإيجابي لديهم تجاه السود.

بدأنا باختبارٍ بسيطٍ لقياس مدى التحيز العرقيّ في عيناتٍ كبيرةٍ من المشاركين القوقازيين البيض، وذلك ضمن سلسلةٍ من الدراسات التي أُجريت في مختبري ومختبر الأستاذ المحاضر ميل سلاتر، فأظهر المشاركون انحيازاً بسيطاً ولكن سلبياً تجاه السود كما هو متوقع. وقمنا لاحقاً باستخدام عدة أنواعٍ من الأوهام الجسدية لجعل المشاركين يشعرون وكأنهم ذَوُو بشرةٍ سوداء، فمثلاً جرّب المشاركون وكأن أيديهم، وجوههم، أو حتى كامل أجسادهم ذات بشرةٍ سوداءٍ في بيئة الواقع الافتراضي.

قمنا بإعادة الاختبار بعد أن عاش المشارك وهم امتلاك جسدٍ آخرٍ، وكانت النتيجة تلاشي الأفكار السلبية تجاه السود لدى المشاركين البيض الذين شعروا بأنهم سودٌ، كما تعامل البالغون الذين شعروا وكأنهم يمتلكون أجسام أطفالٍ بشكلٍ طفوليٍّ مع المعلومات الإدراكية وجوانب شخصياتهم في تجربةٍ مشابهة.

تغيير العقول
إن إحدى الوظائف الأساسية التي ترتكز عليها علاقتنا مع الآخرين هي حساب مقدار التشابه الجسديّ أو النفسي بيننا وبينهم، إذ نساعد الناس غالباً على الشعور بالآخرين ليصبحون أشبه بهم عبر تغيير نظرتهم لأنفسهم، ما يقلل بدوره من انحيازهم السلبي تجاههم. بمعنى آخر، يَسمحُ تكامل الإشارات الحسّية المختلفة للعقل بتحديث نظرته للجسد، ما يدفع الأشخاص لتغيير سلوكهم تجاه الآخرين.

تتشكل النظرة السلبية لعرقٍ ما في عمرٍ مبكرٍ عادةً، ويُعتقد أنها تبقى على حالها نسبياً طوال مرحلة الرشد، وهناك القليل من الدراسات التي بحثت إمكانية تغيير الانحياز الاجتماعي، وتفيد نتائج دراساتنا بأنه يمكن التأثير على هذا الانحياز إيجابياً عبر استغلال طريقة عقولنا في جمع المعلومات الحسية من أجسادنا، ويمكن لنتائجٍ كهذه أن تكون شرارة انطلاقٍ لبحوثٍ جديدةٍ تدرس كيفية نشوء الهوية الشخصية وكيفية تغيير الحواجز بين أفراد الجماعة الواحدة وبين الجماعات الأخرى.

من زاويةٍ مجتمعيةٍ، نجدُ أن أساليبنا ونتائجنا تساعدنا على مقاربة ظواهرٍ كالعنصرية العرقية، الكراهية على أساسٍ دينيٍّ أو عرقيّ، عدم المساواة بين الجنسين، والتعصب. ومن المؤكد أنه ليس هناك حلٌّ سهلٌ للعنصرية، ولكن يمكن أن تتحول تجاربنا بسهولةٍ إلى أدواتٍ تعليميةٍ تفاعليةٍ باستعمال تقنيات الواقع الافتراضي، ما يسمح للمشاركين بأن يروا الحياة بعين شخصٍ آخرٍ يختلف تماماً عنهم.

إن الشعور بأننا أناسٌ مختلفون أو بأننا أعضاءُ من مجموعةٍ أخرى يجعلنا ندرك بأننا “نتشابه أكثر مما نختلف” كما تقول مايا أنجلو، فكيف يمكن لتغييرات كهذه أن تُغير المجتمع؟ هذا سؤال سياسيٌ جوهريٌّ بلا إجابةٍ منذ آلاف السنين وحتى الآن، ولكن تجربة العيش في جسدٍ آخرٍ تُعدُّ خطوةً صغيرةً ولكن مهمةً لاندماج مجتمعيٍ أكثر.

المصدر: Discover

وهم اليد المطاطية The Rubber Hand Illusion
اختبار الترابط الضمني Implicit Association Test
جون هورد قريفن John Howard Griffin
ميل سلاتر Mel Slate
الواقع الافتراضي virtual reality

السعودي العلمي

Comments are closed.