ما الذي يمكن أن تخبرنا به الجسيمات عن الكون؟

كتابة: ماليندا سوليداي.
ترجمة: آسيه الشهراني.

يدرس العلماء في فيزياء الجسيمات خصائص أصغر أجزاءِ المادة وكيفية تفاعلها، وهناك فرعٌ آخر في الفيزياء يبتكر النظريات ويختبرها حول ما يحدث في عالمنا الشاسع، وهو الفيزياء الفلكية. وفي حين يبدو أن فيزياء الجسيمات تركز على الأجسام الصغيرة، وبينما يركز كلٌ من فيزياء الجسيمات والفيزياء الفلكية على طرفي النقيض من المجال، فإن العلماء في المجالين يعتمدون في الواقع على بعضهم البعض، حيث تربط العديد من خطوط البحث الحالية بين الكبير جداً والصغير جداً.

بذور البنية الكونية
بدايةً، يطرح علماء فيزياء الجسيمات وعلماء الفيزياء الفلكية أسئلةً حول نمو الكون المبكر، وتشرح إيفا سيلفرشتاين في مكتبها في جامعة ستانفورد عملها الذي يحلل التفاصيل الرياضية لأسرع فترةٍ لنمو الكون والتي يُطلق عليها التضخم الكوني، وسيلفرشتاين هي فيزيائيةٌ وأستاذةٌ محاضرةٌ في جامعة ستانفورد ومعهد كافلي للفيزياء الفلكية وعلم الكونيات، وتقول: “أرى أن الموضوع مثيرٌ للاهتمام بشكلٍ خاص، لأنك تستطيع فهم أصل بنية الكون، فهذا النموذج المعروف باسم التضخم يشرح أصل البنية بأكثر الطرق بساطةً وجمالاً والتي يمكن للفيزيائي تخيلها”.

يعتقد العلماء أن درجة حرارة الكون انخفضت وأن الجسميات بدأت في الاندماج لتكوّن ذرات الهيدروجين بعد الانفجار الكبير، وأطلقت هذه العملية الفوتونات المحبوسة سابقاً، وهي الجسيمات الأولية للضوء. ويُطلق على التوهج الصادر من ذاك الضوء خلفية الموجات الكونية الميكروية ولا يزال موجوداً في السماء حتى اليوم، ويقيس العلماء الخصائص المختلفة لخلفية الموجات الكونية الميكروية لمعرفة المزيد عما حدث في تلك اللحظات الأولى بعد الانفجار الكبير.

وفقاً لنماذج العلماء، فإن النمط الذي تشكل لأول مرةٍ على المستوى دون الذري أصبح في نهاية المطاف أساساً لبنية الكون بأسره، فالأماكن التي كانت كثيفة بالجسيمات دون الذرية أو حتى بالتقلبات الافتراضية للجسيمات دون الذرية جذبت المزيد والمزيد من المادة، وأصبحت مناطق الكثافة المواقع التي تشكلت فيها المجرات وعناقيد المجرات مع نمو الكون، وبذلك نما الصغير جداً ليصبح كبيراً جداً. ويأمل العلماء الذين يدرسون خلفية الموجات الكونية الميكروية أن يعرفوا ما هو أكثر من مجرد كيفية نمو الكون، إذ يُمكن أن تُعطي نظرةً ثاقبةً عن المادة المظلمة، الطاقة المظلمة، وكتلة النيوترينو.

تقول سيلفرشتاين: “إنه لأمرٌ مدهشٌ أننا نستطيع التحقق مما حدث قبل نحو 14 مليار سنةٍ، فصحيحٌ أنه لا يمكننا معرفة كل ما جرى، ولكن بإمكاننا معرفة قدرٍ رائع من المحتويات والتفاعلات على الأقل”. ويقول عالم الفيزياء النظرية الحائز على جائز نوبل ستيفن واينبرغ في كتابه “الدقائق الثلاث الأولى” والصادر عام 1977مـ: “إنّ الرغبة في تتبع تاريخ الكون والعودة إلى بداياته هو أمرٌ لا يقاوم، فمنذ بداية العلم الحديث في القرنين السادس عشر والسابع عشر، عاد الفيزيائيون والفلكيون مرةً بعد أخرى إلى مشكلة أصل الكون”.

البحث في الظلام
يفكر فيزيائيو الجسيمات وعلماء الفيزياء الفلكية في كلّ من المادة المظلمة والطاقة المظلمة، حيث يريد علماء الفيزياء الفلكية أن يعرفوا مكوّنات الكون المبكر، وماهية ما يُكوّن كوننا اليوم، بينما يريد علماء فيزياء الجسيمات أن يعرفوا ما إذا كانت هناك جسيماتٌ وقوى غير مكتشفةٍ بعد. ويقول أستاذ الفيزياء النظرية في المسرع الخطي بمركز ستانفورد “سلاك” وهو مايكل بيسكين: “تُشكل المادة المظلمة معظم المادة في الكون، ومع ذلك لا توجد جسيماتٌ معروفةٌ في النموذج القياسي في فيزياء الجسيمات بنفس الخصائص التي يجب أن تمتلكها، إذ ينبغي أن تكون المادة المظلمة ضعيفة التفاعل للغاية، وثقيلةً أو بطيئة الحركة، ومستقرةً على مدى عمر الكون”.

هناك أدلةٌ قويةٌ على وجود المادة المظلمة من خلال تأثير جاذبيتها على المادة العادية في المجرات والعناقيد، وتشير هذه المشاهدات إلى أن الكون مكوّنٌ من المادة الطبيعية بنسبة 5% تقريباً، 25% من المادة المظلمة، و70% من الطاقة المظلمة، ولكن لم يرصد العلماء الطاقة المظلمة أو المادة المظلمة بشكلٍ مباشرٍ حتى الآن. ويقول بيسكين: “هذا في الواقع هو أكبر إحراجٍ لفيزياء الجسيمات، فمع وجود الكثير من المادة الذرية التي نراها في الكون، إلا أن هناك مادةً مظلمةً تبلغ خمسة أضعاف ما نراه، وليس لدينا أيّ فكرة عن ماهيتها”. ويقول العالم الكبير ورئيس مجموعة النظرية في المسرع الخطي بمركز ستانفورد “سلاك” وهو توم ريزو أن لدى العلماء أدواتٌ قويةٌ لمحاولة فهم بعض هذه الأشياء المجهولة، إذ تزايد عدد نماذج المادة المظلمة على مدى السنوات العديدة الماضية، بالإضافة إلى عدد طرق اكتشافها.

تبحث بعض التجارب عن دليلٍ مباشرٍ على تصادم جسيم المادة المظلمة بجسيم المادة في أجهزة الرصد، بينما يبحث آخرون عن أدلةٍ غير مباشرة على جسيمات المادة المظلمة التي تتدخل في عملياتٍ أخرى، أو تختبئ في خلفية الموجات الكونية الميكروية. فإذا كانت المادة المظلمة تحتوي على الخصائص الصحيحة، فيمكن للعلماء أن يصنعوها في مسرعٍ للجسيمات مثل مصادم الهادرون الكبير.

كما يبحث الفيزيائيون بنشاط عن إشاراتٍ للطاقة المظلمة، حيث يمكن قياس خصائص الطاقة المظلمة من خلال رصد حركة عناقيد المجرات عند أكبر المسافات التي نراها في الكون. ويقول الأستاذ المحاضر بجامعة برانديز والباحث في دراسة الطاقة المظلمة وهو مارسيل سواريس سانتوس: “نحصل على الكثير من المفاجآت عادةً في كلّ مرة نتعلم فيها تقنيةً جديدةً لمراقبة الكون، ويمكننا الاستفادة من هذه الطرق الجديدة لمعرفة المزيد عن علم الكون وجوانب الفيزياء الأخرى”.

القوى المساهمة
تتطابق اهتمامات علماء فيزياء الجسيمات وعلماء الفيزياء الفلكية في دراسة الجاذبية أيضاً، فالجاذبية بالنسبة لعلماء فيزياء الجسيمات هي القوة الأساسية الوحيدة للطبيعة التي لا يفسرها النموذج القياسي تماماً، بينما يريد علماء الفيزياء الفلكية فهم الدور الهام الذي لعبته الجاذبية وما زالت تلعبه في تكوين الكون.

لجميع القوى في النموذج القياسي ما يسمى بالجسيم ناقل القوة أو البوزون، فالكهرومغناطيسية لديها الفوتونات، والقوة النووية القوية لديها الغلونات، بينما لدى القوة النووية الضعيفة بوزون (دبليو) وبوزون (زد)، إذ تتبادل الجسيمات ناقلات القوة هذه عندما تتفاعل مع بعضها، وتنقل كمياتٍ صغيرةٍ من المعلومات المكماة التي يصفها العلماء من خلال ميكانيكا الكم. كما نجد أن النسبية العامة توضّح كيفية عمل قوة الجاذبية على المقاييس الكبيرة، فالأرض تجذب أجسادنا لها، وتتجاذب الكواكب بين بعضها البعض، ولكن لم تُفهم بعد الكيفية التي تنقل بها جسيمات الكم الجاذبية، وإن اكتشاف الجسيمات دون الذرية الناقلة لقوة الجاذبية سيساعد في تفسير كيفية عمل الجاذبية على المقاييس الصغيرة، وصياغة نظرية كمية للجاذبية تربط بين النسبية العامة وميكانيكا الكم.

تتفاعل الجاذبية مع المادة بشكلٍ ضعيفٍ للغاية مقارنةً بالقوى الأساسية الأخرى، لكن تزداد قوة التفاعل مع زيادة الطاقات، حيث يتنبأ النظريون أن تكون تأثيرات الجاذبية الكميّة قويةً مثل القوى الأخرى عند الطاقات العالية بما فيه الكفاية، كتلك التي شوهدت في بداية الكون. فلقد لعبت الجاذبية دوراً أساسياً في نقل النموذج صغير النطاق لخلفية الموجات الكونية الميكروية إلى النموذج واسع النطاق لكوننا اليوم. وتقول سيلفرشتاين: “هناك طريقةٌ أخرى يمكن أن تصبح بها هذه التأثيرات مهمةَ للجاذبية، وهي إذا كانت هناك بعض العمليات التي تدوم لفترةٍ طويلة، وحتى لو لم تكن الطاقات عاليةً كما ينبغي لتكون حساسةً للتأثيرات كالتأثير الآني للجاذبية الكمّية”.

يقوم الفيزيائيون بنمذجة الجاذبية على مقاييس زمنيةٍ طويلةٍ في محاولة للكشف عن تلك التأثيرات، وإن فهمنا للجاذبية مفتاحٌ للبحث عن المادة المظلمة أيضاً، حيث يعتقد بعض العلماء أن المادة المظلمة لا توجد بالفعل، ويقولون بأن الدليل الذي وجدناه حتى الآن هو مجرد علامةٍ على أننا لا نفهم قوة الجاذبية تماماً.

أفكارٌ كبيرةٌ وتفاصيل صغيرةٌ
إنّ معرفة المزيد عن الجاذبية يمكن أن يخبرنا عن الكون المظلم، والذي بدوره يُمكن أن يكشف عن نظرةٍ جديدةٍ أيضاً حول كيفية تشكّل بنية الكون في بدايته، ويقول بيسكين أن العلماء يحاولون “إغلاق الحلقة” بين فيزياء الجسيمات والكون المبكر. وسيتمكن العلماء معرفة المزيد عن القوانين التي تحكم الفيزياء عند الطاقات العالية مع فحصهم للفضاء والرجوع أكثر في الزمن إلى الوراء، ما سيخبرنا بشيءٍ عن أصغر مكوّنات عالمنا أيضاً.

 

المصدر (Symmetry Magazine)

المصطلحات:

فيزياء الجسيمات Particle Physics
الفيزياء الفلكية Aastrophysics
التضخم الكوني Cosmic inflation
إيفا سيلفرشتاين Eva Silverstein
الانفجار الكبير The Big Bang
جامعة ستانفورد Stanford University
الفوتونات Photons
خلفية الموجات الكونية الميكروية Cosmic microwave background
النيوترينو Neutrino
ستيفن واينبرغ Stephen Weinberg
المسرع الخطي لمركز ستانفورد SLAC
المادة المظلمة Dark matter
الطاقة المظلمة Dark energy
مايكل بيسكين Michael Peskin
توم ريزو Tom Rizzo
جامعة برانديز Brandeis University
مارسيل سواريس-سانتوس Marcelle Soares-Santos
بوزون دبليوW-Boson
بوزون زد Z-Boson
غلونات Gluons
النسبية العامة General relativity

السعودي العلمي

Website Comments

  1. نظرية الرؤية

    العناصر الاساسية في الكون اليوم هي الزمن،المادة والمكان.في البدء كان الزمن ثم المادةالكثيفة.ثم الانفجار الذي ولد منه المكان..المكان داخل المادة!!