رحلة العقل: قصة تطور الدماغ البشري

تطور الدماغ بشكل عام ودماغ الإنسان على وجه الخصوص أشغل العلماء الطبيعيين والفلاسفة منذ عرفنا حقيقة التطور الطبيعي ولا يزال محل نقاش وإن أشبع علماء الاحياء هذا الموضوع بحثاً وتنظيراً. بدايةً يجب علينا أن نعي أن طائفة الثدييات لديها اكثر الأمخاخ (Cerebrum) تطوراً من يين الطوائف الأخرى، ورتبة الرئيسيات (primates) بشكل خاص – التي ينتمي إليها البشر بجميع أنواعهم- تملك أدمغة قد تبلغ سعتها ضعفي السعة المتوقعة من كائن ثديي بنفس الحجم، لذا يمكننا أن نستنتج مبدئيا أنه لو خرج نوع من الكائنات بدماغ ضخم بالمقارنة بحجمه وقدرات عقلية عليا فائقة فإنه على الاغلب سيخرج من رتبة الرئيسيات. وبالفعل خرج الإنسان المعاصر بدماغ تفوق سعته خمسة اضعاف ما هو متوقع من كائن ثديي بنفس الحجم1.

تجدر الملاحظة أن حجم أو وزن الدماغ بحد ذاته لا يعني بالضرورة زيادة ذكاء الكائن بشكل كبير وتطوير وظائفه العليا ، فالحيتان قد يصل وزن أدمغتها إلى ٨ كيلوغرام والفيلة ٥كيلوغرام في حين متوسط وزن دماغ الإنسان المعاصر (Homo Sapiens) يقارب ١،٣ كيلوغرام 2 بل وحتى قي جنس البشر (Homo genus) لم يكن الإنسان المعاصر صاحب أكبر دماغ فقد كان يفوقه نوع النياندرتال (Homo Neanderthal) بمتوسط وزن دماغ يصل إلى ١،٥ كيلوغرام 3. أيضاً المعيار الأهم ليس بالضرورة نسبة وزن الدماغ من الوزن الكلي الكائن فهنا ستغلب أنواع من النمل الكائنات الاخرى حيث قد يصل نسبة وزن دماغها البدائي ١٥٪ من وزنها الكلي 4 (تذكير: نسبة وزن دماغك لوزنك يقارب ٢٪ فقط).

يعتقد كثير من العلماء أن العامل الأهم في تطور وظائف الدماغ العليا وتعقيد السلوك هو تركيب الدماغ نفسه وأحجام الاجزاء المختلفة منه وليس فقط حجمه وسعته الإجمالية، ويتضح ذلك جلياً قي مفارقة إنسان الفلوريسينسيس (Homo floresiensis) والذي انقرض قبل حوالي ١٢ ألف عام. المفارقة تكمن في أن دماغ هذا النوع من البشر يوازي حجم دماغ الشمبانزي (Pan troglodytes) -في حدود ٤٠٠ سنتيمتر مكعب- ومع ذلك كان يتميز بسلوك أعقد مما هو موجود عند الشمبانزي وقريب جداً من سلوك البشر الأوائل من استخدام الأدوات والتعامل مع النار وغير ذلك من النشاطات المعقدة 5.

النظريات حول تطور الدماغ البشري إلى شكله الحالي تتعلق بشكل رئيسي بالضغوط المناخية والبيئية والاجتماعية التي واجهها الإنسان خلال مسيرته التطورية الطويلة. يختلف العلماء في مقدار تأثير كل نوع من هذه الضغوط لكن المؤكد أنها كلها كانت حاضرة بشكل أو بآخر في فترات مختلفة من التاريخ البشري 6.

يمكن تلخيص تطور دماغ الإنسان المعاصر بالتسلسل الآتي:
ــ منذ ٦ إلى ٢ مليون سنة مضت بدأ البشر الأوائل بالوقوف على أقدامهم أثناء المشي بصفة دائمة لتصبح قاماتهم منتصبة بعكس أنواع الرئيسيات الأخرى التي يمكنها المشي على قدمين بشكل متقطع وتفضل التحرك على أربعة أطراف. هنا تجدر الإشارة إلى أن تغير بيئة البشر الأوائل المتمثل في تناقص درجة حرارة الأرض وانحسار الغابات في مواطنهم أدى إلى قلة اعتمادهم على تسلق الأشجار وكذلك اضطرارهم إلى التنقل لمسافات أبعد حتى يتمكنوا من الحصول على الغذاء 7. النتيجة الطبيعية هي اعتمادهم التدريجي على التحرك على قدمين بدل أربعة حتى يتمكنوا من الرؤية لمسافة أبعد طلباً للغذاء أو تحاشياً من المفترس -وإن كان المشي على قدمين لا يضمن سرعة أعلى ولكنه يعطي فرصة للقتال ربما باستخدام أسلحة بدائية مادامت اليدان غير مشغولتان بالمشي. المشي على قدمين ساهم في توفير الطاقة المستهلكة في الحركة مقارنة بالمشي على أربعة أطراف كحال قريبنا الشمبانزي وبالتالي إمكانية المشي لمسافات أبعد. القامة المنتصبة تسببت في تغيرات تشريحية في جسم الإنسان في تلك الفترة بالذات في منطقة الحوض. يعتقد كثير من العلماء أن القامة المنتصبة هي أول تغير ملاحظ يفرّق بين البشر الأوائل وأقربائهم من رتبة الرئيسيات 8. الاعتماد على القدمين فقط في الحركة أودت إلى حرية اليدين أثناء مشي البشر الأوائل مما جعلهم يبتدئون في تصنيع الأدوات البسيطة من العظام والحجارة 9. الناتج الإجمالي هو زيادة حجم الدماغ بشكل ضئيل.

ــ منذ ٢ مليون إلى ٨٠٠ ألف سنة مضت تنقل البشر الأوائل في أصقاع قارة أفريقيا وخارجها للقارات الأخرى وتعرضوا لظروف بيئية واجتماعية مختلفة تسببت في نشوء تحديات جديدة بالذات في التكيف في بيئات جديدة وأنظمة غذائية أكثر تنوعاً 6. الدليل العلمي يشير إلى أن الكائنات التي تواجه صعوبة وتعقيداً في الحصول على غذائها تمتلك دماغاً أكبر حجماً بالمقارنة بقريناتها حيث يضيف ذلك عبئاً عليها لابتداع استراتيجيات أكثر فعالية في رحلة الحصول على غذاء 10. المحصلة هي نمو حجم الدماغ خلال هذه الفترة بشكل ملحوظ.

ــ منذ ٨٠٠-٢٠٠ ألف سنة مضت تطور دماغ البشر بشكل مضطرد وغير مسبوق في فترة تميزت بتغيرات مناخية متفاوتة بشدة. الأدمغة الكبيرة والمعقدة ساعدت البشر على التواصل مع بعضهم البعض ومع بيئتهم المتغيرة بشكل جديد ومختلف. نظراً إلى أن البيئة3.5.3-13_KC_GQREU_0_lg أصبحت غير متوقعة أكثر من السابق فإن الأدمغة الأكبر ساعدت أجدادنا على العيش والنجاة 11. يمكنكم في الرسم البياني على الجانب ملاحظة زيادة تفاوت المناخ في الثلاثة ملايين عام الماضية كما بينت الدراسات البيئية والأحفورية وكيف ازداد هذا التفاوت حدة في الفترة ما بين ٨٠٠ ألف إلى ٢٠٠ ألف عام خلت. في النصف السفلي من الرسم البياني يمكنكم ملاحظة تزايد حجم الدماغ طبقاً ل١٦٠ جمجمة بشرية تعود لحقب مختلفة في الثلاثة ملايين عام السالفة. زيادة حجم الدماغ خوّلت البشر من حفظ المزيد من المعلومات حول البيئة المتغيرة وكيفية العيش فيها 12.

أخيراً قد يتساءل البعض عن كيفية تمكّن العلماء من تحديد أحجام أدمغة أحافير بشرية قد تتعدى أعمارها أكثر من ٣ ملايين عام خاصة وأن الأدمغة أنسجة لينة ورخوة سهلة التحلل وليست مثل العظام. الجواب ببساطة هو أن قياس حجم الدماغ يكون بحسب سعة الجمجمة الداخلية للإنسان، لذلك إن وجد علماء الأحافير هيكلاً عظمياً بجمجمة سليمة نسبيا أمكنهم تصنيع قالب داخلي (Endocast) لتحديد سعة دماغ الإنسان ودراسة تركيبه بدقة كبيرة خاصة المناطق الدماغية السطحية 13.

وكخاتمة أود أن أوضح للجميع أن دماغ البشر الضخم والمعقد له تكلفة باهظة أثرت سلباً عليه في مسيرته التطورية التاريخية بل وحتى عصرنا هذا. أبرز السلبيات هي تزايد استهلاك الدماغ للطاقة التي تصل إلى ٢٠٪ من طاقة الجسم المتاحة على الرغم من أن الدماغ لا يزن إلا ٢٪ من الوزن الإجمالي. أيضاً زيادة حجم الدماغ تسببت في زيادة حجم الرأس بشكل ملحوظ مما عقّد وصعّب عملية الولادة وخروج الجنين وكذلك ساهم في تباطئ نمو الطفل العقلي 14.

المقال لم أنوي به حصر جميع النظريات حول تطور الدماغ البشري وإنما إعطاء لمحة بسيطة عنها. توجد نظريات أخرى لم تذكر هنا مثل الدور الجنسي في الانتخاب الطبيعي وغيرها. من أراد الاستزادة فليعود إلى الدراسات العلمية التي استخدمت كمراجع.

 


 

المصادر:

  1. Armstrong, E. (1983). Relative brain size and metabolism in mammals.Science, 220(4603), 1302-1304.
  2. Kappelman, J. (1996). The evolution of body mass and relative brain size in fossil hominids. Journal of Human Evolution, 30(3), 243-276.
  3. Pearce, E., Stringer, C., & Dunbar, R. I. M. (2013). New insights into differences in brain organization between Neanderthals and anatomically modern humans. Proceedings of the Royal Society B: Biological Sciences,280(1758).
  4. Seid, M. A., Castillo, A., & Wcislo, W. T. (2011). The allometry of brain miniaturization in ants. Brain, Behavior and Evolution, 77(1), 5-13.
  5. Conroy, G. C., & Smith, R. J. (2007). The size of scalable brain components in the human evolutionary lineage: With a comment on the paradox of “Homo floresiensis”. HOMO-Journal of Comparative Human Biology, 58(1), 1-12.
  6. Bailey, D. H., & Geary, D. C. (2009). Hominid brain evolution. Human Nature,20(1), 67-79.
  7. Potts, R. (1998). Environmental hypotheses of hominin evolution. American journal of physical anthropology, 107(s 27), 93-136.
  8. Rodman, P. S., & McHenry, H. M. (1980). Bioenergetics and the origin of hominid bipedalism. American Journal of Physical Anthropology, 52(1), 103-106.
  9. Susman, R. L. (1994). Fossil evidence for early hominid tool use. Science,265(5178), 1570-1573.
  10. Barton, R. A. (1996). Neocortex size and behavioural ecology in primates. Proceedings of the Royal Society of London B, 263, 173–177
  11. Calvin, W. H. (2002). A brain for all seasons: Human evolution and abrupt climate change. University of Chicago Press.
  12. http://humanorigins.si.edu/human-characteristics/brains Courtesty of Karen Carr Studios
  13. Falk, D. (1987). Hominid paleoneurology. Annual Review of Anthropology, 16, 13-30.
  14. http://ngm.nationalgeographic.com/2006/07/bipedal-body/ackerman-text

Website Comments

  1. bahaa wathouq

    حضرة الاخوة نظرية التطور خطاء علمي فادح والتشابه الحاصل لان بعض الشفرات الوراثية تكون متقاربة بين الاجناس المختلفة