دراسة التخطيط المدني لمدن البكتيريا – الجزء الأول

كتابة: كاري أرنولد.
ترجمة: روان الرفاعي.
مراجعة: عمر الجهني.

قد لا يضاهي التجمع الأخضر اللامع الذي يُرى تحت المجهر ساحة تايمز سكوير في كثافته، ولكن نظرة عالمة الأحياء المجهرية كاثرين كويت الأولى لهذه المدينة المكتظة كانت بنفس القدر من الإثارة، إذ قامت كويت بتصميم رقاقةٍ بلاستيكيةٍ صغيرةٍ ذات ثقوبٍ متعددة كطالبة دكتوراه في جامعة أوكسفورد، وبشكلٍ يُمكن تشبيهه بأرفع شريحةٍ من الجبنة السويسرية في العالم، وتُسمى برقائق الموائع الدقيقة. ولقد أُريد بهذه الرقاقة أن تُحاكي البيئات النفاذية التي تعيش فيها العديد من البكتيريا كالتربة، ومن ثم زرعت كويت سلالاتٍ مختلفةٍ من البكتيريا الإشريكية القولونية فيها، واُستخدم بروتيناً فلّورياً يختلف لونه في كل سلالةٍ للتميز بين السلالات، وهو ما سمح لكويت بقياس كمية تواجد كل نوعٍ من الخلايا. لقد خطت كويت خطوةً إلى الخلف وظلت تشاهد تدفق تيار الماء المنتظم وهو يزوّد المستعمرة التي ابتكرتها بالغذاء، وفي هذه الاثناء شاهدت تكوّن مدينةٍ ميكروبيةٍ عملاقةٍ من البكتيريا والتي تُعرف بالغشاء الحيوي.

تتواجد الأغشية الحيوية الرقيقة في كل مكانٍ، فهي ليست بديلاً نادراً للميكروبات الأحادية التي تسبح في دورقٍ أو تتمدد في طبقٍ بتري، إذ أن 99.9% من الخلايا البسيطة المدعوة بالخلايا بدائية النواة تفضل العيش في بيئاتٍ تزدحم فيها بالملايين من أقرانها. وتستطيع هذه الأغشية الحيوية من البكتيريا العنقودية أن تتسبب بعدوى يصعب القضاء عليها في قسطرة الأوردة المركزية وأنابيب القسطرة. وتلوّث الأغشية الحيوية كلّ شيءٍ بدءاً من خطوط الصرف الصحي وحتى أسناننا. وتغطي مليارات البكتيريا التي تعيش في الغشاء الحيوي الواحد نفسها بمركبٍ لزج يتكوّن من السكر والبروتين ويُعرف بالنسيج الخلوي الخارجي، وهو ما يساعد على التصاقها بفاعلية بأي سطحٍ تختاره، كما يحمي كلٌ من النسيج الغشائي والشكل المادي للغشاء الحيوي الخلايا في مركز الهيكل من اعتداءات المفترسين والمضادات الحيوية، ويُعطي حجم الغشاء الحيوي وتفاعل الخلايا بداخله كل خليةٍ مختلفةٍ فرصة التخصص لخدمة مهمةٍ معينة: كالإمداد بالغذاء، إبعاد المفترسين، أو العمل كمستودعٍ لحفظ المادة الوراثية لإعادة بناء الهيكل بأكمله.

تقول عالمة الأحياء البحرية بجامعة ولاية كاليفورنيا في مونيتيري باي وهي ميليسا جارين: ” نستطيع مشاهدة هذه المجتمعات المعقدة فيما يُعد أساساً موطنها الأصلي، وسندرس هيكلتها وعملياتها الأيضية، فهناك الكثير مما يمكن تعلمه عند دراسة الأغشية الحيوية في حالتها الأصلية الغريبة”.

تجري كويت حالياً أبحاث ما بعد الدكتوراه في مركز ميموريال سلون كيترينج للسرطان في نيويورك، وأوضحت التجربة التي أجرتها مع زملاءها على رقاقة الموائع الدقيقة بأن بإمكان كلٍ من كمية البكتيريا والماء المتدفق إلى الغشاء الحيوي الرقيق التأثير على نموه عبر إعاقته أو إعادة تكوينه. ونُشرت الدراسة في دورية وقائع الأكاديمية الوطنية للعلوم عام 2017مـ، لتُضاف بذلك إلى الأعمال السابقة المتكاثرة لعلماءٍ آخرين والتي تبرهن بأن تلك القوى الفيزيائية مثل القص الهيدرودينامي، ولزوجة النسيج الخلوي خارج الخلية يحدد نمو المجموعات الميكروبية المعقدة، فدراساتٌ كهذه تخطو بنا خطوةً كبيرةً نحو فك شفرة تلك القواعد التي تَحكم تكوّن وتطور الأغشية الحيوية.

إنّ هذه القوى الفيزيائية الحيوية تشبه قوانين تقسيم المناطق العالمية بالنسبة لمدن الأغشية الحيوية، فهي تتحكم بكيفية حصول قاطنيها على الغذاء، مواد البناء، وكيفية تحرك وتفاعل الكائنات التي بداخلها مع بعضها البعض. وكما يستخدم المخططون المدنيون معرفتهم بمبادئ وقوانين الهندسة المدنية ليبنوا مدناً أفضل من أجل البشر، فإن علماء الأحياء المجهرية والمهندسون الحيويون قادرون على استخدام هذه القوانين لصنع أجسامٍ ذات بيئيةٍ أكثر أو أقل ملائمةً لمليارات الخلايا التي تعيش حولنا أو داخل أجسادنا.

كتب أنتوني فان ليفينهوك في السابع عشر من سبتمبر (أيلول) عام 1683مـ للجمعية الملكية في لندن حاملاً إليهم أخباراً بخصوص حيواناتٍ ضئيلةٍ رآها تحت المجهر، إذ أخذ ليفينهوك مادةً بيضاء ثخينةً تشبه مخيض اللبن من أسنانه ومن أسنان امرأتين ورجلين كبار السن لم ينظفوا أسنانهم قط، وفحصها مستخدماً عدساته المصقولة يدوياً، ووصف ليفينهوك ما رآه في رسالته كاتباً: “تجمعٌ عظيمٌ بشكلٍ لا يصدق لحيواناتٍ صغيرةٍ لا تُرى بالعين المجردة، وتسبح ببساطةٍ تفوق ما رأيته طيلة حياتي “، ليكون هذا أحد أولى الوصفيات المدونة للبكتيريا، ويعرف العلماء الآن بأن ترسبات الأسنان التي وصفها ليفينهوك كان في الحقيقة غشاءً حيوياً رقيقاً وليس تجمعاً بكتيرياً بسيطاً من البكتيريا الأحادية.

على الرغم من تواريخ اكتشافات ليفينهوك المبكرة، تطلب الأمر علماء الأحياء المجهرية حتى سبعينيات وثمانينيات القرن العشرين ليبدؤوا البحث في الأغشية الحيوية، وقام أحد الرواد الأوائل وهو بوني باسلر من جامعة برينستون بتحديد الإشارات الكيميائية التي تستخدمها البكتيريا لتحصل على تعداد أقرانه بعملية تعرف باستشعار النصاب، بينما قام باحثون آخرون بفك شفرة المورّثات التي تعمل على توليف النسيج خارج الخلية، وكيفية تنوعه بين الأنواع المختلفة وحتى في الفرد الواحد ذاته.

بقدر أهمية هذه المساهمات العلمية، إلا أنها عانت من وجوه قصورٍ جوهرية، فما يميز الأغشية الحيوية عن الكتل الكبيرة من البكتيريا المتطابقة يكمن في كثرة العمليات التي تحدث بين الميكروبات المكوّنة لها، ولكن على الرغم من ذلك أُجبر الكثير من العلماء على مراقبة نمو الأغشية الحيوية في أطباق بترية أو ما يكافئها. لقد أصبح من الواضح أن ظروف المختبرات البسيطة هذه غير قادرة على توفير الدعم اللازم لذلك المدى الكبير من التفاعلات الفيزيائية الحيوية، والتي تحدد أشكال الأغشية الحيوية ووظائفها.

تتصف الكثير من التفاعلات التي تحدث بين البكتيريا في داخل الغشاء الحيوي بطبيعةٍ تنافسيةٍ، إذ يوجد داخل الغشاء الحيوي كائناتٌ حيةٌ سريعة النمو تحاول خطف المواد الغذائية قبل أن يشرع جيرانها من الكائنات الحية الأخرى بأخذها، كما أن بعض أنواع البكتريا تفرز مضاداً حيوياً يمنع منافسيها من التطفل على مناطق سيادتها. وتمنع بعض أنواع البكتيريا الخلايا الاستغلالية من الاستفادة من النسيج خارج الخلية المصنوع بتكلفةٍ عاليةٍ من الطاقة والمواد الغذائية، وذلك عبر تعليق نفسها بجزيئات النسيج لخصصتها، وتستطيع الميكروبات التي تعيش بداخل الغشاء الحيوي أن تتخصص في مهامٍ مختلفةٍ حسب موقعها في الغشاء الحيوي وخلفيتها الوراثية. حيث تركز الخلايا التي تتواجد على حوافه على مهمة البحث عن الغذاء وردع المفترسات، بينما تحتمي الخلايا المتمركزة في قلب الغشاء الحيوي الرقيق وتعمل كمخازن له، كما نوازن بعض الخلايا بداخله بين مشاركة مواردها الغذائية مع غيرها والمنافسة من أجل الحصول عليها. إنّ فشل هذه العمليات أو نجاحها يعتمد بشكلٍ كبيرٍ على التفاصيل الدقيقة للظروف الفيزيائية المتغيرة التي تنمو فيها الأغشية الحيوية، والتي قد تتغير تغيّراً ملحوظاً على مقياس عدة ميكرونات.

تصف كويت النتيجة بأنها ستكون تركيباً تعاونياً ومعقداً ويختلف تماماً عن التركيب الذي تنتجه البكتريا النامية في مزرعةٍ بكتيريةٍ صافيةٍ، وتقول: ” إننا معتادون على التفكير في التطور البكتيري كما لو أنه يكون دائماً على أطباق بتري، مما يعني أننا نفوّت عواملاً بالغة الأهمية تتعلق بالضغوط الانتخابية المبنية على الفيزياء”. ووفقاً لعالم الفيزياء الحيوية في معهد ماكس بلانك للأحياء الأرضية الدقيقة في مدينة ماربورغ بألمانيا وهو كنُوت دريشر، فإن الأبحاث الأولية التي أُجريت على الأغشية الحيوية ركزت أكثر على البيئة الكيميائية للتجمعات الميكروبية بدلاً من الفيزيائية والتي تحكم وجودها أيضاً، وتمكن العلماء من قياس القوى الفيزيائية التي تؤثر على الخلايا الفردية في السنوات ما بين الخمس والعشر الماضية، وذلك نتيجةً التطورات التي حصلت في الهندسة المجهرية والمجاهر عالية الدقة، كما مكنتهم أيضاً من تكرار مجموعةٍ من الظروف البيئية المختلفة في المختبرات، وهذا ما ساعد العلماء على تتبع تكوين الأغشية الحيوية الرقيقة خليةً بخليةً. ويقول دريشر:” إذا أردت أن تعرف كيف تنمو الأغشية الحيوية فعليك أن تستكشف الخلايا الفردية المكوّنة لها لأن تركيبها ووظائفها تنتج من التفاعلات الناتجة بينها”.

تابعونا بالغد لقراءة الجزء الثاني من المقال.

 

المصدر (QuantaMagazine)

المصطلحات:
كاثرين كويت Katharine Coyte
الغشاء الحيوي الرقيق Biofilm
رقاقة الموائع الجزيئية Microfluidic chip
البكتيريا القولونية E. coli
طبق بتري Petri dish
ميليسا جارين Melissa Garren
مركز ميموريال سلون كيترينج للسرطان  Memorial Sloan Kettering Cancer Center
وقائع الأكاديمية الوطنية للعلوم Proceedings of the National Academy of Sciences
عملية استشعار النصاب Quorum sensing
معهد ماكس بلانك للأحياء الأرضية الدقيقة Max Planck Institute for Terrestrial Microbiology
القص الهيدرودينامي hydrodynamic shear
أنتوني فان ليفينهوك Antonie van Leeuwenhoek
الجمعية الملكية في لندن the Royal Society of London
بوني باسلر Bonnie Bassler
جامعة برينستون Princeton University
ميكرونات microns
كنُوت دريشر Knut Drescher
ويندي توماس Wendy Thomas
كاري ناديل Carey Nadell
الزائفة الزنجارية Pseudomonas aeruginosa
جامعة نانيانغ التقنية Nanyang Technological University
يانغ ليانغ Yang Liang

السعودي العلمي

Comments are closed.