الثورة الصناعية وضرورة إعادة هيكلة مجتمعاتنا

كتابة: مارك دودجسون وديفيد جان.
ترجمة: أمل سلطان العبود.

استعرت حربٌ على العجلات في لندن منذ أن بدأت أوبر بالعمل هناك قبل أربع سنواتٍ، إذ اعترض سائقو سيارات الأجرة التقليدية السوداء بغضبٍ شديدٍ على الزعزعة التي أحدثتها هذه التقنية المتقدمة الجديدة، واتهمت أوبر عمدة لندن بالانحياز إلى سيارات الأجرة السوداء، واتخذت اجراءاتٍ قانونيةٍ ضد قطاع المواصلات في لندن والذي يخطط لوضع لوائح جديدةٍ للحد من عدد سيارات الأجرة الخاصة، ونظم أكثر من 100 سائقٍ لشركة أوبر في لندن مظاهرةً في نوفمبر بـ”التأخر” للضغط على الشركة لتدفع الحد الأدنى من الأجور.

لقد ركز معظم نقاش الزعزعة الرقمية حول آثارها المترتبة على المنافسة والتوظيف في عالم الشركات، ولكن ماذا عن العواقب الأوسع على المجتمع؟ إذ يسجل أكثر من 30 ألفٍ من سكان لندن في أوبر أسبوعياً، فما هي عاقبة ذلك؟ لدى لندن الآن أكثر من 40 ألف سائقٍ خاصٍ مسجلين في أوبر، بالإضافة إلى أسطول العاصمة الحالي من سيارات الأجرة السوداء المقننة، وهناك الآن الآلاف من السيارات في الشوارع والمزيد من الازدحام المروري، مما يؤدي إلى رحلات أبطأ وأكثر تكلفة والمزيد من انبعاثات الغازات، حيث يتوفى 9 آلاف شخصٍ من سكان لندن سنوياً كنتيجةٍ مباشرةٍ لتلوث الهواء. وستجلب التقنية مزيداً من الزعزعة، حيث ستعالج المركبات الكهربائية التي تعمل بدون سائق مشكلة تلوث الهواء جزئياً في غضون عقدين أو أٌقل، ولكن ما الذي سيفعله السائقون الفائضون، بصرف النظر عن تنفس هواءٍ أنظف؟

هناك العديد من المؤتمرات وورش العمل والكتب والمواقع الإلكترونية المكرسة لإنشاء “المعرفة المزعزعة” في الشركات، ولكن المجتمع بأكمله يحتاج إلى التفكير في هذه الزعزعة بشكلٍ جدّي، فالتطبيقات التي يتم تطويرها لاستخدام الذكاء الاصطناعي، والروبوتات، والبيانات الضخمة، وإنترنت الأشياء، لها عواقبَ وخيمةٌ، إلا أن الآثار المُزعزعة للابتكار ليست جديدةً: إذ مرّ العامل الزراعي الذي نُقل إلى المصنع الصناعي في النصف الثاني من القرن الثامن عشر بمستوياتٍ من الدمار في حياته ومجتمعه، والتي تجعل التغييرات الحالية تبدو طفيفةً مقارنةً بها. وقد أدت هذه التغييرات التي استمرت لأكثر من قرنٍ من الزمان إلى ردود فعلٍ من اللوديين (فئةُ من عمال مصانع المخيط الذين دمروا الآلات التي هددت وظائفهم احتجاجاً في القرن التاسع عشر*)، ثورة كارل ماركس، وألهمت بنجامين دزرائيلي في رثائه لبريطانيا بكونها أصبحت “دولتين” منقسمتين بشكلٍ لا يمكن إصلاحه.

التدمير الإبداعي أم فخٌ للفقر؟
بالرغم من حدوث تحولاتٍ للمجتمع في الماضي، إلا أن الواقع المعاصر مُقلقٌ للغاية، إذ أن 47٪ من الوظائف في الولايات المتحدة مهددة بالحوسبة ووفقاً لدراسةٍ أجرتها جامعة أكسفورد، وتشكل عقود العمل العرَضية أو كما تسمى بعقد صفر ساعة تهديداً للكثيرين، ونسبة كبيرةٌ من أولئك الذين طردوا من العمل سيكونون في الأربعينيات والخمسينيات من عمرهم، وسينتظرون لعقودٍ قبل أن يتمكنوا من المطالبة بالمعاشات التقاعدية، وقد يفتح ذلك فخاً جديداً للفقر، حيث يحذر محافظ بنك إنجلترا مارك كارني من “أول عقدٍ ضائعٍ” في نمو الأجور “منذ ستينيات القرن التاسع عشر”، أي عندما كان “كارل ماركس يخربش في المكتبة البريطانية”. ولقد قال جوزيف شومبيتر منذ 75 عاماً بأن الابتكار هو عملية تدميرٍ إبداعي، ويكمن التحدي الاجتماعي والسياسي في إبراز الإبداع وتخفيف الدمار.

نحن بحاجةٍ إلى الموازنة بين النقاش الذي يحتفي بفضائل التغيير السريع، خفة الحركة، وريادة الأعمال، مع النظر في الطرق التي تتأقلم بها المجتمعات ومواطنوها مع الاضطرابات الكبيرة الناتجة عن التغيير التقني والاستفادة منها، وتظهر ردة الفعل السياسية لهذا الانعدام النسبي للاهتمام في فلسفة ترمب وتصويت بريكست (خروج المملكة المتحدة من الاتحاد الأوروبي*). فقد تكون العولمة، الإنتاجية، والابتكار تعويذةً بالنسبة للمستفيدين منها، بينما تعني فقدان الوظائف، بذل جهدٍ أكبر، وعدم اليقين أكبر في العمل بالنسبة للكثيرين.

إن التحديات هائلةٌ، فصناعة السيارات على سبيل المثال مسؤولةٌ عن أكثر من 50 مليون وظيفةً، وربما فوائد اقتصاديةٌ أوسع لا يمكن حصرها، ومع ذلك فإن مخرجاتها تلوّث البيئة، ويُقتل أكثر من مليون شخص على الطرقات سنوياً. وقد يكون لدينا الحل في السيارات الكهربائية ذاتية القيادة، ولكن أكبر مجموعةٍ من الموظفين في الولايات المتحدة الأمريكية هم من سائقي الشاحنات والحافلات وسيارات الأجرة، والذين قد يفقد الكثير منهم وظائفهم.

إذا كنت تمتلك سيارة تسلا تحتاج إلى صيانة، فغالباً ما يتم إصلاح المشكلة من خلال تحديث البرنامج ليلاً بدلاً من نقلها إلى مرآبٍ قريب، ولقد استبدلت شركة الإلكترونيات التايوانية فوكسكون المتعاقدة لتصنيع الآيفون نصف قوتها العاملة بالروبوتات منذ إطلاق هاتف آيفون6، وإنّ إبراز الإبداع والتخفيف من الآثار المدمرة في ظروفٍ كهذه هو أمرٌ غايةٌ في الصعوبة.

هناك العديد من الآراء المتشائمة حول هجمة التقنية، مع وجود اقتراحاتٍ بأن التهديد يشمل جميع الوظائف باستثناء الإبداعية والقائمة على مهاراتٍ محددةٍ، على الرغم من أن أجهزة الحاسوب تُدرب على الإبداع وحتى الوظائف الفنية أيضاً، كما يشرح مارتن فورد في كتابه صعود الروبوتات. ويمكن حماية الوظائف بشكلٍ مؤقتٍ ومكلفٍ من التقدم التقني، ولكن ما يهم في نهاية الأمر هو التكيف الاجتماعي، فالتقنية هي أداةٌ للمجتمع الذي يُنشئها ويستخدمها، وينتج تأثيرها عن تطورها المشترك مع المواطنين والمؤسسات، فالخوارزميات لا تعتبر محايدة، بل هي مُخرجات الثقافة والسياسة والمجتمع، أي نفس الأشياء التي تشكل البشر الذين يصممونها ويستخدمونها.

يبين طلاب الابتكار كيفية مصاحبة الآثار المُزعزعة لموجات التغير التقني الهائلة منذ الثورة الصناعية للتغييرات الاجتماعية، بما في ذلك المهارات الجديدة، العلاقات الصناعية، واللوائح التنظيمية، وعلى النقيض من تلك الاضطرابات السابقة، فالعالم اليوم في فترة ازدهارٍ لا مثيل لها في أجزاءٍ كثيرةٍ منه.

رؤية كينز في العمل لمدة 15 ساعة أسبوعياً
من الجدير تذكّر جون مينارد كين حين كتب في عام 1930مـ عن “الإمكانيات الاقتصادية لأحفادنا”، حيث أقر كينز بالحاجة إلى إعادة تأهيلٍ شاقةٍ للبطالة التقنية، وكتب عن الفزع و “الانهيار العصبي” في المجتمع، حيث يعاني الناس من عواقبها السلبية، وكيف تُعتبر “مشكلةً مخيفةً بالنسبة للشخص العادي الذي لا يملك مواهب خاصة”.

كما أشار كينز إلى تحديات فترة الرخاء: كمواجهة الحرية من الهموم الاقتصادية لأول مرةٍ، والعمل في مناوباتٍ لمدة ثلاث ساعاتٍ يومياً و15 ساعةٍ في الأسبوع، وقال أن من الواجب علينا لإدارة هذا “أن نكرم أولئك الذين يمكنهم أن يعلمونا كيف نقتنص الساعة واليوم ببراعة”، و”كيف نستغل أوقات الفراغ (…) للعيش بحكمةٍ وبشكلٍ جيد”. والسؤال الحقيقي هو كيف سنتكيف مع عالمٍ فيه قلةٌ معتبرةٌ من العمل كما نعرفه، إذ يجب على الشركات استخدام خبرتها في الزعزعة للمساعدة في التعامل مع هذه الزعزعة الاجتماعية الهائلة.

تفاقم الزعزعة التقنية من انعدام المساواة الاجتماعية، فنحن بحاجةٍ إلى التحدث بجديةٍ عن فضائل الأجر الاجتماعي، وبحاجةٍ إلى تمويل الناس للعمل دون أن يتم توظيفهم بالضرورة، أي بطريقةٍ تسمح لهم بمساعدة الآخرين أو ممارسة مهاراتهم بالطرق التي يجدونها مجديةً ومُجزيةً، ولذلك يجب أن يتغير التعليم من إعداد الناس لوظيفةٍ (غير موجودة على الأرجح) إلى إعدادهم لخلق عملٍ مُحددٍ ذاتيّاً.

إن إدخال البرمجة في المنهج أمرٌ جيدٌ، ولكنه لن يأخذنا إلا لخطواتٍ قليلةٍ، إذ تحتاج أنظمة التعليم إلى رفض الهمجية التي تجسدها المناهج المدرسية الوطنية في المملكة المتحدة، والتي لم تعد تتضمن دراسة تاريخ الفن، الحضارة الكلاسيكية، أو علم الآثار، ومثل هذه الخطوات قصيرة النظر بشكلٍ ملحوظٍ نظراً للتأثير الثقافي للمملكة المتحدة على المستوى الدولي. وفي عالمٍ تتلاشى فيه الوظائف التقليدية، مازال لدينا فرصاً أكبر “للحياة بحكمة”، وهو القول المأثور لـ ت. س. إليوت، بأن الثقافة هي التي تجعل الحياة جديرة بالعيش، وهذا بالفعل دليلٌ مهمٌ.

المصدر (World Economic Forum)

* نقاط أضافتها الجهة المترجمة.

المصطلحات:
مارك دودجسون Mark Dodgson
ديفيد جان David Gann
اللوديين Luddites
كارل ماركس Karl Marx
بنجامين دزرائيلي Benjamin Disraeli
جامعة أكسفورد Oxford University
مارك كارنيMark Carney
جوزيف شومبيتر Joseph Schumpeter
تصويت بريكست Brexit
شركة فوكسكون Foxconn
مارتن فورد Martin Ford
جون مينارد كينز John Maynard Keynes
ت. س. إليوت T S Eliot

السعودي العلمي

Comments are closed.