النموذج القياسي لفيزياء الجسيمات – الجزء الثاني

الكاتبة: الأستاذة لينة.

سلسلة المقالات هذه مُقتبسةٌ من محاضرةٍ ألقتها الكاتبة بعنوان The Standard Model of Particles Physics  في شهر مارس من العام 2015 مـ. ونُشر على شكل سلسلةٍ من ثلاثة أجزاءٍ، وبإمكانكم أن تجدوا المقال الأول هنا، والثالث هنا.

أنهينا المقال الأول بذكر حقيقة أن التفاعلات الأساسية الأربعة التي تحدث بين الجسيمات الأولية هي جزءٌ من النموذج القياسي، ولكن كيف يكون ذلك؟ لنعرف الإجابة، يجب علينا أن نفهم تفاصيل هذه التفاعلات:

  • الجاذبية:

تصف نظرية النسبية العامة هذا التفاعل، بينما يتم تجاهلها في فيزياء الجسيمات لضعفها الشديد. حيث إن قارنتها بشدة التفاعل النووي القوي فسنجد أن الجاذبية أضعف منه ب 10-42 مرة. فالجاذبية قوةٌ تعمل على المستوى الكوني الضخم كمستوى الكواكب والمجرات ونحوها. وتُهمل القوتين النوويتين على هذا المستوى لكونهما محصورتين بمدىً صغيرٍ جداً (قطر البروتون إلى قطر النواة)، أما القوى الكهرومغناطيسية فتعمل بين الأجسام المشحونة كهربياً، ولكن غالب الأجسام الكبيرة متعادلةٌ [1].

لذلك يمكننا القول بأن النموذج القياسي يدرس التفاعلات الثلاثة الأخيرة فقط، معتمداً بشكلٍ أساسيٍ على التناظرات أو ما يعرف بنظريات حقول القياس.

  • التفاعل الكهرومغناطيسي:

تصف الإلكتروديناميك الكمومية التفاعل الكهرومغناطيسي على مستوى الجسيمات بدقةٍ بالغةٍ، حيث تعد نظرية الإلكتروديناميك الكمومية النظرية الأكثر تطابقاً مع التجربة بنسبة خطءٍ لا تتعدى 10 أجزاء بالمليار. إن نظرية حقل القياس تنص على أن “مولدات التناظر” في تفاعلٍ معينٍ تترافق مع جسيم (بوزون) ينقل التفاعل. حيث ينقل الفوتون التفاعل الكهرومغناطيسي، بمعنى أن أيّ جسيمين متفاعلين كهرومغناطيسياً سيتبادلان فوتوناً يحمل طاقةً أو كمية الحركة المتبادلة في التفاعل. وتساهم رسومات فاينمان بتبسيط التعامل مع نظرية الإلكتروديناميك الكمومية كتلك المعروضة بالشكل 5 لتفاعلٍ كهرومغناطيسيٍ لإلكترونٍ اكتسب طاقةً ثم فقدها على هيئة فوتون.

 

شكل 5شكل 5

من الشكل السابق يمكننا أن نستنتج أن التفاعل الكهرومغناطيسي لا يحصل بين جسيمين فحسب، بل يمكن لجسيمٍ واحدٍ أن “يتفاعل مع نفسه” أو ما يسمى بالطاقة الذاتية، حيث يمكن لإلكترونٍ أن يشع فوتوناً ثم يمتصه. ويمكن أن تحصل العديد من التفاعلات الذاتية (بسبب التموجات الكمومية) مما يؤدي إلى ظهور تباعداتٍ وما لا نهاياتٍ مزعجةٍ في المعادلات. ولذلك يلجأ الفيزيائيون لطرقٍ رياضيةٍ تُعرف بإعادة التطبيع للتخلص من تلك التباعدات. مما يجعل من نظريات حقل القياس الحالية (التي تصف التفاعلات) ليست أنيقةً رياضياً تماماً، بل معقدةً وتقريبيةً وغير مبنيةٍ بشكلٍ رياضيٍ مسلميٍ كما هو الحال مع نظريات الحقل الكمومي الساكن المبنية على المسلمات مثل مسلمات ويغتمان.

يمكن النظر لنظرية الإلكتروديناميك الكمومية بشكلٍ مختلفٍ قليلاً، حيث تفسر هذه النظرية جميع التفاعلات الكهرومغناطيسية بالكون بشكلٍ أساسيٍ بالرغم من تعقيدها الرياضي، مما يعني أنها أصل الكيمياء والكيمياء الحيوية والحياة، ومشاعرنا وما نحبه ونهواه من عطورٍ وألوانٍ وفنونٍ، وكل ما نسمعه من موسيقى وما نفكر به كله متجذر وناتجٌ من الإلكتروديناميك الكمومي!

  • التفاعل النووي القوي:

تحدثتا سابقاً عن هذا التفاعل الذي يبقي النواة متماسكةً والذي تصفه نظرية يوكاوا، ولكن نظرية يوكاوا لم تكن سوى تقريبٍ/نظرةٍ من بعد للتفاعل النووي القوي، والذي يُعرف بالتفاعل اللوني أو الديناميك اللوني الكمومية. وبالرغم من الإسم إلا أن التفاعل اللوني لا علاقة له بالأولوان، والأمر مجرد تسمية لا أكثر. ويعود السبب لتسمية التفاعل النووي القوي بهذا الإسم إلى المقاربة بين ديناميك التفاعل وخلط الألوان، فأنت بحاجةٍ لخلط ثلاثة ألوانٍ رئيسيةٍ لكي تحصل على أيّ لونٍ (أحمر، أخضر[2] وأزرق).

فالكواركات (التي تتفاعل تفاعلا قوياً) تحمل واحدةً من ثلاثة شحناتٍ (بدلاً من إثنتين في التفاعل الكهرومغناطيسي)، ولقد سُميت تلك الشحنات بأسماء الألوان الرئيسية السابقة. أما النظرية التي تُبنى عليها الديناميك اللوني الكمومية فهي نظرية يانج ميلز، وهي أحد الحالات الخاصة من نظرية حقل القياس. ولكن الأمور أكثر تعقيداً هنا مقارنةً بالديناميك اللوني الكمومية، حيث توجد 8 مولدات لزمرة التناظر SU3 وبالتالي توجد ثمانية بوزوناتٍ ناقلةٍ للتفاعل، وتدعى جميعها بالغلوونات. ويتم تبادل الغلوونات بين الكواركات في الديناميك اللوني الكمومية، ولا تتفاعل الكواركات فقط بالتفاعل اللوني بل تتفاعل الغلوونات المختلفة لونياً مع بعضها أيضاً.

شكل 6                        شكل 7

شكل 6 الصورة الكاملة للتفاعل النووي                     شكل 7 المقاربة بين التفاعل اللوني وخلط الألوان
القوي الأساسي و الفرعي

 

  • التفاعل النووي الضعيف

يتميز هذا التفاعل بالكثير عن غيره، ففي البداية يغير هذا التفاعل “نكهة” الكواركات بتحوّيل الكوارك العلوي إلى سفلي أو العكس وما إلى ذلك. لذلك يعتبر الإنحلال النووي بفعل اشعاع بيتا مثالاً على تفاعلٍ نوويٍ ضعيفٍ (شكل 8)، ولذلك يُعرف أحياناً بديناميك النكهية الكمومية. وبالإضافة لذلك، تمتلك الجسيمات الناقلة لهذا التفاعل كتلةً كبيرةً جداً (إن قورنت بالبروتون مثلاً). وتعرف بجسيمات Z  و  W-  و W+ . وتتحلل هذه الجسيمات سريعاً لكونها ناشئة من الفراغ الناتج من التموجات الكمومية، وذلك بفعل مبدأ عدم التأكد* للطاقة والزمن. ولهذا فإن مدى هذه التفاعل بالغ القصر 10-18  cm.

شكل 8شكل 8: إنحلال موجات بيتا نتيحةً للتفاعل النووي الضعيف

يحدث في التفاعل الضعيف نوعين رئيسين من “التيارات”: تيارٌ مشحونٌ يتمثل بفيضٍ من بوزونات W± و تيارٌ متعادلٌ ويتمثل بفيضٍ من جسيمات Z .أدى اكتشاف بوزونات Z وW   في عام 1973مـ في وكالة الأبحاث النووية الأوروبية إلى نشأة النموذج القياسي لفيزياء الجسميات كما نعهده اليوم، والذي يُعرف بنموذج واينبرغ وعبد السلام.

تصبح القوتين الضعيفة والكهرومغناطيسية قوةً واحدةً في مستوى طاقةٍ يُقدر بـ 100 GeV، ويطلق عليه اسم التفاعل الكهروضعيف، ولهذا التفاعل أهميةٌ كبيرةٌ في بداية نشأة الكون. حيث حدث انكسارٌ للتناظر بين هذين التفاعلين عندما برد الكون، مؤدياً إلى قدرتنا على تمييزهما من بعضهما. الأمر أشبه بكأسٍ من الماء به ثلج، فعند ارتفاع درجة حرارة الوسط سيذوب الثلج في الماء ولن نتمكن من تمييز الماء والثلج بعد ذلك.

شكل 9
شكل 9: تيارٌ متعادلٌ صغيفٌ في غرفةٍ فقاعيةٍ لدى سيرن، بين الإكتشاف التاريخي للأنموذج القياسي لوانبرغ و عبد السلام

يعني هذا أن الفوتون سيسافر بسرعة الضوء بينما بوزونات (W, Z) لن تفعل ذلك، بل ستنفصل عن بعضها مكونةً قوتين منفصلتين.إن سبب انكسار التناظر هو ما يعرف بحقل هيجز (الحقل القياسي) بطاقةٍ أقل من 100GeV، حيث يكتسب هذا الحقل “قيمةً” لا تساوي الصفر في الفراغ مما يؤدي لتفاعل الجسيمات معه وبالأخص البوزونات الناقلة للتفاعل الكهروضعيف (والتي تعرف بـ W0  و B ). ويؤدي هذا التفاعل لتحويلها إلى فوتونٍ بغير كتلةٍ وبوزونات W المشحونة و  Z  المتعادل، والتي ليس لها كتلة كما ذكرنا سابقا.

إن ما قمنا بعرضه أعلاه يُعرف بآلية هيجز- أنغلير، وانكسار التناظر التلقائي:

يعطي حقل هيجز الفيرميونات (الجسيمات المادية) كتلةً أيضاً، وذلك عبر تفاعلها معه بآليةٍ مختلفةٍ تُعرف باقتران ياكاويا مع حقل الهيجز. ولكن يجب التنويه أن أكثر من 90% من كتلة الأشياء حولنا لا تأتي من آلية هيجز-بوكاوا، بل من معادلة أينشتاين E=mc2، حيث توجد طاقةٌ لربط الكواركات. وتفهم هذه الطاقة على أنها كتلةٌ حسب المعادلة الشهيرة، وتساهم طاقة الربط بـ 90% من كتلة البروتون/ النيوترون.

 

وللموضوع تتمة …

[1] ولكن لا يمكننا الإستمرار بتجاهل الجاذبية في فيزياء الجسيمات لأسبابٍ عديدةٍ، بالإمكان مراجعة مقالات سابقة عن الجاذبية الكمومية  للإستزادة.

[2] ربما يعتبر الفنانون أن الألوان الرئيسية هي الأحمر الأصفر و الأزرق، ولكن خلط الأوان الذي نتحدث عنه مختلف، فمثلاً للحصول على الأصفر من ألواننا الرئيسية سنطرح الأخضر من الأزرق.

 

للإستزادة و القراءة المعمقة:

– Kaku, M. (1993). Quantum field theory (Vol. 378). Oxford: Oxford University Press.
– Langacker, P. (2011). The standard model and beyond. CRC press.
– Perkins, D. H. (1982). Introduction to high energy physics (Vol. 2). Reading, Massachusetts: Addison-Wesley.
– Lichtenberg, D. B., Tassie, L. J., & Keleman, P. J. (1968). Quark-diquark model of baryons and SU (6). Physical Review167(5), 1535.
http://www.quantumdiaries.org/  Amazing Blog about particle physics – Run By particle physics around the world from various labs
– Omnes, R., & Barton, G. (1971). Introduction to particle physics. New York: Wiley-Interscience.
– http://home.web.cern.ch/fr/about/physics/standard-model

المحاضرة:

Images credit: CERN http://home.web.cern.ch/   and  Les Paticules Élémentaires- Pour la Science

نظريات حقول القياس:Gauge field theories
الإلكتروديناميك الكمومية: Quantum Electrodymanics QED
الأعداد الكمومية: quantum numbers
تناظر الدوران: Spin
الطاقة الذاتية: self-energy
إعادة التطبيع: Renormalization
رياضي مسلمي: axiomatic
الديناميك اللوني الكمومي: Quantum Chromodynamics
يانج ميلز: Yang-Mills
ديناميك النكهية الكمومية:  Quantum Flavourdynamics
وكالة الأبحاث النووية الأوروبية CERN
التفاعل الكهروضعيف: Electroweak interaction
الحقل القياسي: Scalar Field
انكسار التناظر التلقائي: Spontaneous  symmetry breaking
اقتران ياكاويا مع حقل الهيجز:  Yukawa-Coupling with the Higgs Field

السعودي العلمي

Website Comments