ماذا الذي يحتاجه البشر لاستعمار مجرة درب التبانة؟

كتابة: كيم استانلي روبينسون.
ترجمة: علي الزهراني.
مراجعة: محمد ممدوح.




إنها فكرةٌ شائعةٌ في الخيال العلمي، إلا أن السفر إلى كواكب خارج مجموعتنا الشمسية ستكون أكثر تعقيداً وصعوبةً مما ربما تتخيله.

عبـر عالم الصواريخ الروسي قسطنطين تسيولكوڤسكي عن فكرة سفر البشر في نهاية المطاف وسكنهم أجزاءً أخرى من مجرتنا بشكلٍ جيدٍ في وقتٍ مبكرٍ حيث كتب: “الأرض هي مهد البشرية، إلا أن ذلك لا يعني أنك ستبقى في مهدك إلى الأبد”. ومن وقتها أصبحت هذه الفكرة رئيسيةً في الخيال العلمي، وهكذا أصبحت جزءاً من الصورة الإجماعية لمستقبل البشرية. فالذهاب إلى النجوم غالباً ما يُعتبر كمصيرٍ للبشرية، بل ومقياساً لنجاحها كنوعٍ. لكن منذ القرن الذي طُرحت فيه هذه الرؤية، تجتمع الأشياء التي تعلمناها عن الكون وعن أنفسنا لتُشير إلى أن الخروج من المجرة قد لا يكون مصير البشرية في النهاية.

إن المشكلة التي قد تكون خلف كل المشاكل الأخرى لهذه الفكرة هي الحجم الهائل للكون، والذي لم يكن معروفاً في البداية عندما تصور الناس بأننا سنذهب إلى النجوم. فأحد أقرب النجوم إلينا وهو نجم تاو سيتي يبعد عنا حوالي ١٢ سنةً ضوئيةً، أيّ أبعد عن الأرض بـ ١٠٠ مليار مرة من بعد قمرنا. إن فارقاً كمياً بذلك الحجم يتحول إلى فارقٍ نوعيٍّ، فلا يمكننا ببساطة إرسال أناسٍ عبر مسافاتٍ هائلةٍ كهذه في سفينة فضاء، لأن سفينة الفضاء تعد بيئةً فقيرةً جداً لدعم البشر خلال الوقت الذي ستستغرقه، والذي يُقدّر بقرونٍ. وعوضاً عن سفينة الفضاء، سيتحتم علينا صنع نوعٍ من الفُلك الذي يسافر عبر الفضاء، بحيث يكون كبيراً بما يكفي لدعم مجموعةٍ من البشر والنباتات والحيوانات الأخرى في نظامٍ بيئيٍ معاد التدوير بشكلٍ كاملٍ.

من الناحية الأخرى، سيتوجب أن يكون الفُلك صغيراً بما فيه الكفاية ليتسارع إلى سرعةٍ عاليةٍ إلى حدٍ ما، وذلك لتقليص زمن تعرض الرحالة للأشعة الكونية وللأعطال في الفلك. وبالنظر من بعض الزوايا، فكلما كان الفُلك أكبر كلما كان أفضل، لكن كلما كان أكبر كلما ازدادت كمية الوقود التي يجب أن يحملها فيبطئ نفسه من الوصول إلى وجهته؛ وهذه حلقةٌ مفرغةٌ لا يمكن وصلها. ولهذا السبب وأسبابٍ أخرى، فكلما كان الفُلك أصغر كلما كان أفضل، لكن الصغر يصنع مشاكلاً لتدفق الموارد الأيضية وللتوازن البيئي. يشير علم الجغرافيا الحيوية للجزر إلى أنواع المشاكل التي ستنتج عن هذا التقليص، لكن عزلة الفُلك ستكون أكثر من أي جزيرةٍ على الأرض. إن ضروريات التصميم للكبر والصغر ربما تتعارض مع بعضها، تاركةً أي مركبةٍ قابلةٍ للتطبيق في وسطٍ غير موجود.

إن المشاكل الحيوية التي يمكن أن تنتج من التقليص الحاد، التبسيط، والعزل المتطرف للفُلك أياً كان حجمه، يجب أن تشمل الآن تأثيراتٍ ممكنةً على ميكروبيوماتنا. فنحن لسنا وحداتٍ مستقلةً؛ إذ حوالي ٨٠٪ من الحمض النووي في أجسامنا ليس بشرياً، بل لمجموعةٍ هائلةٍ من المخلوقات الصغيرة. ويجب على تلك المجموعة من المخلوقات الصغيرة أن تعمل في توازنٍ ديناميكيٍ من أجل أن نكون أصحاء، فهذا النظام المعقد بأكمله تطور بشكلٍ مشتركٍ على سطح هذا الكوكب في مجموعةٍ محددةٍ من التأثيرات الفيزيائية، بما في ذلك جاذبية الأرض، المجال المغناطيسي، التركيب الكيميائي، الغلاف الجويّ، التعرض لأشعة الشمس، وتواجد البكتيريا. إن السفر إلى النجوم يعني ترك كل هذه التأثيرات ومحاولة استبدالها صناعياً. فمعايير البقاء على البدائل سيكون من المستحيل التأكد منها مسبقاً، حيث أن الوضع معقدٌ جداً لنمذجتها حاسوبياً. وهكذا فإن أي فلكٍ مسافرٍ إلى النجوم سيكون تجربةً وسيكون سكانها حيوانات مختبر. وربما تطوع أول جيلٍ من البشر على متنها كأفرادٍ تجربيين، لكن نسلهم لن يكون كذلك. حيث ستولد هذه الأجيال في مجموعةٍ من الغرف أصغر بترليون مرةٍ من كوكب الأرض، ومن دون أي فرصةٍ للهرب.

في هذه البيئة المتضائلة بشكلٍ متطرفٍ، سيتوجب فرض القوانين للحفاظ على آداء كل جوانب التجربة. حيث لن يكون التكاثر مسألة اختيارٍ حرٍ، إذ سيتوجب على سكان الفلك أن يحافظوا على الحد الأدنى والأقصى لأعدادهم. كما ستكون العديد من الأعمال إلزاميةً من أجل الحفاظ على عمل الفلك، لذا فالعمل أيضاً لن يكون مسألة إختيارٍ حرٍ. ففي النهاية، ستُجبرُ القيود الحادة بنية المجتمع في الفلك على فرض معايير وسلوكياتٍ مختلفةً. إن الوضع نفسه سيتطلب إنشاء ما يشبه دولةً ذات حكمٍ استبداديٍّ.

وبالطبع فإن علمي الاجتماع والنفس حقلان يصعب التنبؤ بهما، حيث أن البشر قابلون للتكيف بشكلٍ عال. لكن التاريخ أظهر أن الناس يميلون للتصرف بشكلٍ سيءٍ في الدول القاسية والأنظمة الاجتماعية. أضف إلى هذه القيود الاجتماعية؛ الحصار الدائم، والإبعاد عن سطح كوكبٍ تطورنا عليه، كما أن احتمالات مشاكل الصحة، وإمكانية الإصابة بصعوباتٍ نفسيةٍ وأمراضٍ عقليةٍ تبدو عاليةً جداً. وعلى مدى عدة أجيال، يصعب تصور أن مجتمعاً كهذا سيبقى مستقراً.
مع ذلك، فالبشر قادرون على التكيف وبارعون. فمن الممكن تصور أن تُحل كل المشاكل التي ذُكرت حتى الآن، وأن الناس المحصورون في الفلك ربما يعبرون الفضاء بنجاحٍ إلى نظامٍ كوكبيٍ قريب. لكن إذا كان الأمر كذلك، فإن مشاكلهم ستكون قد بدأت لتوّها.

إن أي جسمٍ كوكبيٍ يحاول الرحالة الإقامة فيه سيكون إما حياً أو ميتاً. وإذا كانت هناك حياةٌ أصليةٌ، فالمشاكل في العيش والاحتكاك مع أحياءٍ غريبةٍ ربما تتراوح ما بين غير ضارةٍ إلى قاتلةٍ، لكنها ستحتاج بالتأكيد إلى بحثٍ دقيق. ومن ناحيةٍ أخرى، إذا كان الجسم الكوكبي خاملاً، فسيضطر عندها القادمون الجدد إلى تحويله إلى كوكبٍ صالحٍ للحياة باستخدام الموارد المحلية والطاقة التي أحضروها معهم فقط. وهذا يعني أن العملية ستبدأ بشكلٍ بطيءٍ، وستأخذ قرابة قرونٍ، في وقتٍ يجب أن يستمر فيه الفُلك أو مايعادله على الكوكب الغريب بالعمل دون إخفاقات.
من الممكن أيضاً أن لا يتمكن القادمون الجدد من معرفة ما إذا كان الكوكب حياً أو ميتاً، كما هو حالنا الآن مع المريخ. حيث إنهم مايزالون سيواجهون هذه المشكلة أو الأخرى، إلا أنهم لن يعرفوا ما كان الكوكب عليه؛ وهذا تعقيدٌ يمكن أن يبطئ أي خياراتٍ أو إجراءاتٍ.

لذلك، ولنختم؛ فإن أي رحلةٍ بين النجوم ستجلب مجموعةً من المشاكل في غاية الصعوبة، والوصول إلى نظامٍ آخر، سيجلب مجموعةً مختلفةً من المشاكل. كل المشاكل معاً لا تصنع استحالةً مطلقةً، لكنه مشروعٌ بالغ الصعوبة وبفرصٍ ضئيلةٍ للنجاح. إذ تشير الشكوك التي لا يمكن تجنبها إلى أن السعي الأخلاقيّ للمشروع سيتطلب الكثير من الشروط المسبقة قبل أن يتم. من بينها التالي: أولاً، وجود حضارةٍ بشريةٍ مستدامة بشكلٍ واضحٍ على الأرض نفسها، وهذا الإنجاز سيعلمنا الكثير من الأشياء التي سنحتاج معرفتها لبناء تجربةٍ ميدانيةٍ قابلةٍ للحياة على الفلك. ثانياً الكثير من التدريب في فلكٍ يدور حول شمسنا، حيث يمكننا إجراء الإصلاحات ودراسة التدريبات في حلقة رقابةٍ استرجاعيةٍ مستمرةٍ، حتى نتمكن في الحقيقة من بناء إثباتٍ ناجحٍ للفكرة. ثالثاً، استكشافٌ روبوتيٌّ واسعٌ للأنظمة الكوكبية القريبة، لرؤية إن كان هناك أي مرشحٍ ملائمٍ للسكن.

لن يستطيع البشر السفر وسكن الأنظمة النجمية الأخرى بنجاحٍ، مالم تُتخذ كل هذه الخطوات. فالاستعداد نفسه يحتاج لعدة قرونٍ، ويعتمد بشدةٍ على نجاح الخطوة الأولى، ألا وهي صنع حضارةٍ مستدامةٍ طويلة الأجل على الأرض. وهذا الإنجاز هو أهم استعدادٍ مسبقٍ لأي نجاحٍ في الترحال بين النجوم، وإن لم يكن كافياً. فإن لم نصنع استدامةً على كوكبنا، فليس هناك كوكبٌ آخر.




المصدر: (scientificamerican)

كيم استانلي روبينسون (Kim Stanley Robinson)
قسطنطين تسيولكوڤسكي (Konstantin Tsiolkovsky)
تاو سيتي (Tau Ceti)
ميكروبيومات (microbiomes)

Comments are closed.