لماذا تختفي اليراعات المُضيئة من العالم؟

كتابة: عباد ديرانية.
مراجعة: وضاح طرابزوني.

لعلّك تساءلت، لو حدث وأن شاهدت فلم “قبر اليراعات” أو “زيتا الحنون” الذي كان يذاع على قناة سبيستون، لماذا لم تُقابل في طفولتك أياً من الذبابات المُضيئة (أو اليراعات كما تُسمّى علمياً) التي كان يجمعُها زيتا لأخته الصغيرة؟ وفي الحقيقة، لو كنتَ تسكن في أيِّ مدينةٍ ذات مناخٍ متوسطيٍّ معتدلٍ، مثل معظم مدن بلاد الشام ودول المغرب العربي، فعلى الأرجح أنَّ الشارع الذي تُقيم فيه الآن كان مليئاً بهذه الكائنات قبل ثلاثين أو أربعينَ عاماً. ورغم ذلك، فمن المُحتمل أنَّك لم تُقابل أياً منها في حياتك، أو لو كنت من جيلٍ قديمٍ، فربما صادفتها آخر مرةٍ وأنت في سنين مُراهقتك. والسبب في ذلك هو أنَّ اليراعات آخذةٌ بالاختفاء من جميع أنحاء العالم بسرعةٍ مُضطَّردةٍ، والتفسير العلمي لذلك مدهشٌ جداً.

اليراعات هي حشراتٌ صغيرةٌ من فصيلة الخنافس، تعيش في المناطق المُعتدلة والمدارية بمعظم أنحاء العالم، إذ يتواجد منها في آسيا، أوروبا، والأمريكيَّتين أكثر من 2000 نوعٍ. والسِّمة الأكثر فرادةً في هذه الكائنات هي قُدرتها على إنتاج الضوء من أجسامها، فلدى اليراعة في الجانب السفليّ من بطنها عضوٌ خاصٌّ يستطيعُ إصدار أشعة الضوء بإجراء تفاعلٍ كيميائيٍ بين الأوكسجين ومادةٍ تُسمّى اللوسفيرين، وهذا هو نفسُ التفاعل الذي تعتمد عليه العديد من الكائنات الحيَّة الأخرى لإنتاج الضوء، مثل بعض أنواع الحلازين، البكتيريا، وبعض أسماك أعماق المحيط.

تدفِن إناث اليراعات بيُوضها تحت التراب في بداية فصل الرَّبيع، وتخرج يرقاتُها الصغيرة بعد شهرٍ تقريباً لتتجوّل وتبحث عن غذائها، واليرقات أيضاً مضيئةٌ مثل الحشرات البالغة. حيث تتغذى هذه اليرقات على أيّ كائنٍ تجدُه، وغالباً ما يتكون طعامها من الحلازين والبزاقات، التي تستطيع التهامها بإفراز سوائل هاضمةٍ فوقها. وتأخذُ اليرقات سنةً أو اثنتين حتى تصل مرحلة البلوغ، وعادةً ما تعيش لشهرين تقريباً بعد ذلك. ومع أنَّ ذُيول اليرقات الصّغيرة لليراعات تُضيء في اللَّيل أيضاً، إلا أنَّ الغرضَ من ضوئها هو إخافة الكائنات المُفترسة وإبعادها فحسب. وأما لدى اليراعات مكتملة النموّ فيبدو أنَّ لهذا الضوء وظيفةً أكثرُ أهميَّةً.

خلال السَّنوات الأخيرة، بدأ العلماء يلاحظون انخفاضاً في أعداد اليراعات في العديد من الأماكن. حيث اكتُشفت هذه الظاهرة بدايةً في الحدائق والمُنتجعات التي تُنظِّم جولاتٍ سياحيَّةً دوريَّةً لمُراقبة اليراعات في اللَّيل، فكُلَّما زادت حركة السُيَّاح الذين يأتون لمُشاهدة الحشرات وهي تُضيء في الليل، كانت أعدادُها تتناقص بسرعةٍ حتى تختفي. كما وُضِعَت العديدُ من المُبرِّرات في البداية لتفسير اختفاء اليراعات، فمثل العديد من الحيوانات الأخرى، لا بُدَّ أن هذه الكائنات تتأثر بالنشاط البشري الذي يتسبَّب بتدمير بيئتها الطبيعية من غاباتٍ وأحراشٍ، وتجفيف المُستنقعات والأجسام المائية التي تُفضِّل العيش حولها، فضلاً عن أنَّ المُبيدات الحشريَّة لها أثرها السيّء عليها في الغالب. لكن على ما يبدو أنَّ أياً من هذه العوامل، رغم دورها، ليست السبب الجوهريّ في انقراض اليراعات.

تشير العديد من الأبحاث والدراسات الحديثة بأنَّ العامل الأكثر أهميةً في تناقص اليراعات هو أضواء الشوارع. ولعل الجانبَ الأكثر إثارةً من هذه الحشرات بالنسبة للأطفال هو ضوؤها الأخضر الغريب، إلا أنَّها لا تصدر الضوء من حولها عبثاً، بل لهذا الوهج الجميل أهميةٌ شديدةٌ في دورة حياتها الطبيعية. عندما تطير اليراعات بجانب بعضها وتُصدر ومضاتٍ مُتتابعةٍ من الضوء، فهي تحرص على مُزامنتها مع بعضها بوتيرةٍ دقيقةٍ وثابتةٍ، إذ تساعد هذه المزامنة اليراعات على التواصل مع بعضها واختيار شريكٍ لها للتزاوج.

تُظهر التجارب أنه عندما تتعرض مجموعةٌ من اليراعات لضوءٍ ساطعٍ، مثلما يحصل من أنوار سيارةٍ عابرةٍ أو ضوء منزلٍ مجاورٍ، فهي تتشتَّت وتفقِد مزامنتها لومضاتها الضوئية، وتحتاج إلى عدة دقائق لإعادة ترتيب نفسها ومزاولة التواصل مع بعضها. حيث يؤثر مثل هذا التشتيت بطريقةٍ مباشرةٍ على عملية التزاوج، وبالتالي على وضع البيوض والحفاظ على بقاء النوع. وعندما يزيد مستوى الإضاءة حول اليراعات عن درجةٍ معينةٍ، فمن الممكن أن تصبح عاجزةً تماماً عن التزاوج مع بعضها. ففي المدن الحديثة، تُوجد آلاف مصادر الضوء السَّاطع في الليل التي تُشتت مجموعات اليراعات في كل مكانٍ، فثَمّة أنوار السيارات، مصابيح الشوارع، المنازل، الحدائق، والمحال التجارية. وبدون أن يتم التزاوج يتوقف إنتاج الأجيال الجديدة، وتنقرض هذه الحشرات بسهولةٍ بالغةٍ.

لا يزال العلماء يجرون الكثير من الدراسات، خاصةً في السنوات الأخيرة، لفهم سلوك هذه الحشرات وكيف يؤثر تطور المدن على حياتها. إلا أنَّ المرجح، في حال استمرار هذه الظروف، أن اليراعات ستسمر بالتناقص حتى تختفي من أغلب أنحاء كوكبنا.

 

المصادر:

(n.d.). Retrieved October 05, 2016.
org. (n.d.). Retrieved October 05, 2016.
@. (n.d.). Fireflies, Lightning Bugs – National Wildlife Federation. Retrieved October 05, 2016.
MYDANS, S. (n.d.). Firefly populations are disappearing. Retrieved October 5, 2016.

 

السعودي العلمي

Comments are closed.