الزيجات السعودية تحت المجهر: توسيع فحوص ما قبل الزواج

كتابة: د. فوزان الكريع و د. ندى ضرار.

تشهد المملكة العربية السعودية نسبةً عاليةً من ظاهرة زواج الأقارب التي تُقدر بأكثر من نصف الزيجات، وهو ما يُشجع على ظهور نوعٍ معينٍ من الأمراض الوراثية المدعوة بالأمراض المتنحية، بالخصوص عندما نأخذ بعين الاعتبار حجم الأسرة الكبيرة. ولقد ركزت الجهود الوقائية إلى وقتٍ قريبٍ على ما يمكن اعتباره كأكثر الأمراض المتنحية شيوعاً في المجتمع المحلي، وهي بالتحديد الثلاسيميا (فقر دم حوض المتوسط) وفقر الدم المنجلي، ولكن هذا النهج كان مبنياً على التقنيات المتوفرة حين تم تبنيه، ولم يأخذ بالحسبان ما استجد من معلوماتٍ تظهر بجلاءٍ أن هناك تنوعاً كبيراً في الأمراض الوراثية المتنحية. ويتربع على رأس قائمة تلك الأمراض حالات الإعاقة الفكرية والحركية التي قد تنافس أمراض فقر الدم من حيث الانتشار، ولقد أظهرت آخر دراساتنا أن الغالبية الساحقة منها هي في واقع الأمر أمراضٌ وراثيةٌ متنحيةٌ، ولذلك نعتقد أن الوقت قد حان لتوسيع برنامج الفحص الوراثي قبل الزواج ليشمل جميع الأمراض المتنحية المعروفة بين السعوديين.

إن برنامج الفحص الوراثي قبل الزواج أداةٌ هامةٌ للسيطرة على الأمراض الوراثية والحد من انتشارها بالمملكة العربية السعودية، وسيكسب البرنامج ثقلاً أكبر عندما يعلم القارئ بأن الغالبية الساحقة من هذه الأمراض لا يمكن شفاؤها، كما أن العناية بالأفراد المصابين بهذه الأمراض تضع عبئاً نفسياً واجتماعياً كبيرين جداً على عائلات المرضى، فضلاً عن التكلفة الاقتصادية المهولة التي تتطلب الكثير من النفقات، سواءً تلك التي يتحملها الأفراد لمعالجة أنفسهم أو أبنائهم أو التي تتحملها المؤسسات الحكومية، ومن هنا نرى أن توفير تلك المبالغ الباهظة عبر توسعة نطاق الفحص الوراثي قبل الزواج سيخدم الاقتصاد الوطني ويعيد تدوير هذه الاموال في مشاريع صحيةٍ أخرى تخدم فئةً أكبر.

لقد بدأت وزارة الصحة في المملكة العربية السعودية أول برنامجٍ وطنيٍ للفحص قبل الزواج بالفعل، حيث أصدر مجلس الوزراء قراراً برقم54504 وتاريخ 15/11/1424هجرياً والذي نص على “إلزام طرفي عقد النكاح بإحضار شهادة الفحص الطبي قبل إجراء العقد، وأن يكون هذا الإجراء أحد متطلبات تدوين العقد”، ويشمل الفحص الطبي أمراضاً وراثيةً كفقر الدم المنجلي والثلاسيميا وهي أحد أكثر الاضطرابات الوراثية المتنحية انتشاراً في المملكة العربية السعودية، وترتفع نسبتها في بعض المناطق بالخصوص كالمنطقة الشرقية والمنطقة الجنوبية. وللأسف الشديد، لم يدرك المسؤولون عن البرنامج الأهمية القصوى للمشورة الوراثية قبل الفحص إلا مؤخراً، ما أدى إلى ارتفاع نسبة الزيجات التي تمت بين رجالٍ ونساءٍ حاملين لهذه الأمراض على الرغم من إخطارهم بذلك عبر الفحص، ولا يعود السبب إلى رغبة الزوجين الجديدين في إنجاب أطفالٍ مرضى، وإنما لأن الفحص عادةً ما يكون آخر خطوةٍ قبل توقيع عقد الزواج، ما يحد من قدرة هذه العائلات على التراجع لأسبابٍ اجتماعيةٍ بحتةٍ، وبالذات عندما نعلم أن من يقوم بإخطارهم بالنتائج يكون ناقلا للخبر فقط ويندر أن يكون شخصاً متخصصاً في المشورة الوراثية.

كم عاينا من المصابين بأمراض وراثيةٍ في عياداتنا وواجهنا نفس السؤال عندما يعلم الأم والأب أن أبنائهم مصابون بأمراضٍ وراثية: “كيف لم يتمكن فحص ما قبل الزواج من تحذيرنا؟”، فلقد استلم الأبوين نتيجةً “مطمئنةً” بعجالةٍ ولم يشرح لهم أحدٌ أن خلوهم من فقر الدم المنجلي أو الثلاسيميا لا يعني أبداً خلوهم من آلاف الأمراض المتنحية الأخرى، والتي منها ما هو أكثر شيوعاً كما أسلفنا ولكنها غير مشمولةٍ بالفحص و على رأسها حالات الإعاقة الفكرية و الحركية و البصرية. في مجال طب الوراثة، يقع على عاتق المستشار الوراثي دورٌ أساسيٌ لا يمكن الاستغناء عنه في مناقشة نتائج الفحص الوراثي، حيث يُعد عنصرا فعالاً لتوفير المعلومات عن ماهية المرض، نسبة تكراره، وكيفية الوقاية منه في المستقبل. ومن هنا نبعت فكرةٌ بأن نجري دراسةً مبدئيةً تزودنا بكل ما نحتاج معرفته قبل تطبيق برنامج الفحص الموسع على نطاقٍ كبيرٍ سواء من الناحية الاجتماعية أو الاقتصادية أو حتى التقنية، ونقوم حالياً باستقطاب مئة شابٍ وشابةٍ من المقبلين على الزواج لنطبق الفحص المطور عليهم ونعطيهم شرحاً وافياً قبل الفحص وبعده.

يذكر أن فحص ما قبل الزواج هو خطوةٌ متقدمةٌ وهامةٌ في الوقاية الأولية، أي أنه يمنع حدوث المرض قبل وقوعها، ولكن هذا لا ينتقص من أهمية برامج الوقاية الثانوية التي تحد من ضرر الأمراض بعد وقوعها، وعلى رأسها الفحص المبكر لحديثي الولادة الذي يمكننا من اكتشاف العديد من الأمراض الاستقلابية الوراثية مبكراً وبدء العلاج الغذائي والدوائي لتجنب حدوث مضاعفات المرض. ولا ننسى هنا أن ننبه على أن التقدم الكبير في تقنيات فحص تسلسل الحمض النووي، ما ساعد على تطوير اختباراتٍ وراثيةٍ فائقة السرعة والدقة لتشخيص الاضطرابات الوراثية، اختبار الناقل، التشخيص قبل الولادة، وفحص حديثي الولادة. ولهذا نرى أن الوقت قد حان إذاً لنبادر بتوسيع فحص ما قبل الزواج ليشمل أكبر عددٍ ممكنٍ من الأمراض الوراثية المتنحية المنتشرة في مجتمعنا بشكلٍ ملحوظٍ، لنخطو خطوةً إيجابيةً نحو مجتمعٍ صحيٍ ومستقبلٍ باهرٍ.

*الدكتور فوزان الكريع هو عالم وراثة وطبيب متخصص في طب أطفال. يعمل حالياً كأستاذ محاضر في علم الوراثة بجامعة الفيصل بالرياض، وكاستشاري في مستشفى الملك فيصل التخصصي في الرياض.

السعودي العلمي

Comments are closed.